تجاهل المحتويات

المنتدى الإسلامي العامالقصة الكاملة لخطط ومؤامرات وغزو التتار لبلاد المسلمين وانهاء الخلافة الإسلامية

مواضيع إسلامية عامة ومتنوعة عن الإسلام والمسلمين

القصة الكاملة لخطط ومؤامرات وغزو التتار لبلاد المسلمين وانهاء الخلافة الإسلامية

مشاركة غير مقروءة بواسطة شيرين مدحت »

غزوات التتار.jpg
غزوات التتار.jpg (18.2 KiB) تمت المشاهدة 280 مرةً
فكر جنكيزخان في أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان؛ لأن المسافة ضخمة بين الصين والعراق، ولابد من وجود قواعد إمداد ثابتة للجيوش التترية في منطقة متوسطة بين العراق والصين.. كما أن هذه المنطقة التي تعرف بالقوقاز غنية بثرواتها الزراعية والاقتصادية.. وكانت من حواضر الإسلام المشهورة، وكنوزها كثيرة.. وأموالها وفيرة.. هذا بالإضافة إلى أنه لا يستطيع تكتيكياً أن يحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة قد تحاربه أو تقطع عليه خطوط الإمداد..
كل هذه العوامل جعلت جنكيزخان يفكر أولاً في خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، والتي تعرف في ذلك الوقت بالدولة الخوارزمية.. وكانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية هامة مثل: أفغانستان وأوزبكستان والتركمنستان وكازاخستان وطاجكستان وباكستان وأجزاء من إيران.. وكانت عاصمة هذه الدولة الشاسعة هي مدينة "أورجندة" (في تركمنستان حاليًّا).
وكان جنكيزخان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم محمد بن خوارزم شاه على حسن الجوار، ومع ذلك فلم يكن جنكيزخان من أولئك الذين يهتمون بعقودهم، أو يحترمون اتفاقياتهم، ولكنه عقد هذا الاتفاق مع ملك خوارزم ليؤمّن ظهره إلى أن يستتب له الأمر في شرق آسيا، أما وقد استقرت الأوضاع في منطقة الصين ومنغوليا، فقد حان وقت التوسع غرباً في أملاك الدولة الإسلامية!.. ولا مانع -طبعًا- من نقض العهد، وتمزيق الاتفاقيات السابقة.. وهي سنة في أهل الباطل:
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100].
ولكن.. حتى تكون الحرب مقنعة لكلا الطرفين، لابد من وجود سبب يدعو إلى الحرب، وإلى الادعاء بأن الاتفاقيات لم تعد سارية، وقد بحث جنكيزخان عن سبب مناسب، ولكنه لم يجد...
* قتل تجار التتار وإعلان الحرب *
================================
ولكن -سبحان الله - لقد حدث أمر مفاجئ بغير إعداد من جنكيزخان!!.. وهذا الأمر المفاجئ يصلح أن يكون سبباً مقنعاً للحرب.. نعم، لقد جاء هذا السبب مبكراً بالنسبة لإعداد جنكيزخان ولرغبته، ولكن لا مانع من استغلاله.. ولا مانع أيضاً من تقديم بعض الخطوات في خطة الحرب، وتأخير بعض الخطوات الأخرى..
-- ما هي الذريعة التي دخل بها جنكيزخان أرض خوارزم شاه؟!
لقد ذهبت مجموعة من تجار المغول إلى مدينة "أوترار" الإسلامية في مملكة خوارزم شاه.. ولما رآهم حاكم المدينة المسلم، أمسك بهم وقتلهم!..
أما عن سبب قتلهم.. فقد اختلف المؤرخون في تفسير هذه الحادثة:
فمنهم من يقول: إن هؤلاء ما كانوا إلا جواسيس أرسلهم جنكيزخان للتجسس على الدولة الإسلامية أو لاستفزازها، ولذلك قتلهم حاكم مدينة أوترار..
ومنهم من يقول: إن هذا كان عمداً كنوع من الرد على عمليات للسلب والنهب قام بها التتار في بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد خوارزمية مسلمة..
ومنهم من يقول: إن هذا كان فعلاً متعمداً بقصد استثارة التتار للحرب، ليدخل خوارزم شاه بعد ذلك منطقة تركستان، والتي هي في ملك التتار آنذاك.. وإن كان هذا الرأي مستبعداً؛ لأن "محمد بن خوارزم شاه" لم تكن له أطماع تذكر في أرض التتار.. وكل ما كان يريده هو العهد على بقاء كل فريق في مملكته دون تعدٍّ على الآخر.. وليس من المعقول أن يستثير التتار وهو يعلم أعدادهم وجيشهم، وليس من المعقول أيضاً أنه لم يكن يدري عن قوتهم شيئاً وهم الملاصقون له تماماً، وقد ذاع صيت زعيمهم "جنكيزخان" في كل مكان..
ومن المؤرخين أيضًا من يقول: إنما أرسل جنكيزخان بعضاً من رجاله إلى أرض المسلمين ليقتلوا تجار التتار هناك حتى يكون ذلك سبباً في غزو البلاد المسلمة، وإن كان هذا الرأي لا يقوم عليه دليل..
ومنهم من قال: إن خوارزم شاه طمع في أموال التجار فقتلهم لأجلها..
كل هذه احتمالات واردة، لكن المهم في النهاية أن التجار أو الجواسيس قد قُتلوا.. ووصل النبأ إلى جنكيزخان، فأرسل رسالة إلى محمد بن خوارزم شاه يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يحاكمهم بنفسه، ولكن محمد بن خوارزم شاه اعتبر ذلك تعدياً على سيادة البلاد المسلمة؛ فهو لا يسلم مجرماً مسلماً ليحاكم في بلدة أخرى بشريعة أخرى.. غير أنه قال: إنه سيحاكمهم في بلاده.. فإن ثبت بعد التحقيق أنهم مخطئون عاقبهم في بلاده بالقانون السائد فيها وهو الشريعة الإسلامية..
وهذا الكلام وإن كان منطقياً ومقبولاً في كل بقاع الأرض إلا أنه بالطبع لم يكن مقنعاً لجنكيزخان.. أو قل: إن جنكيزخان لم يكن يرغب في الاقتناع؛ فليس المجال مجال حجة أو برهان أو دليل.. حقيقة الأمر أن جنكيزخان قد أعد لغزو بلاد المسلمين خططا مسبقة.. ولن يعطلها شيء.. وإنما كان يبحث فقط عن علة مناسبة، أو شبه مناسبة، وقد وجد في هذا الأمر العلة التي كان يريدها..
* غزو التتار للدولة الخوارزمية *
=======================
بدأت الهجمة التترية الأولى على دولة خوارزم شاه، وجاء جنكيزخان بجيشه الكبير لغزو خوارزم شاه، وخرج له محمد بن خوارزم شاه بجيشه أيضاً.. والتقى الفريقان في موقعة شنيعة استمرت أربعة أيام متصلة، وذلك شرق نهر سيحون (وهو يعرف الآن بنهر سرداريا ، ويقع في دولة كازاخستان المسلمة)، وقتل من الفريقين خلق كثير.. لقد استُشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفاً، ومات من التتار أضعاف ذلك.. ثم تحاجز الفريقان، وانسحب محمد بن خوارزم شاه بجيشه لأنه وجد أن أعداد التتار هائلة.. وذهب ليحصن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة وخاصة العاصمة: أورجندة.. وكان هذا اللقاء الدامي في عام 616هـ.
انشغل محمد بن خوارزم شاه في تحضير الجيوش من أطراف دولته، ولكن لا ننسى أنه كان منفصلاً -بل معاديًا- للخلافة العباسية في العراق، ولغيرها من الممالك الإسلامية؛ فلم يكن على وفاق مع الأتراك ولا مع السلاجقة ولا مع الدولة الغورية في الهند.. وهكذا كانت مملكة خوارزم شاه منعزلة عن بقية العالم الإسلامي.. ووقفت وحيدة في مواجهة الغزو التتري المهول..
وهذه المملكة وإن كانت قوية وتمكنت من الثبات في أول اللقاءات، فإنها ـ ولا شك ـ لن تصمد بمفردها أمام الضربات التترية المتوالية..
وفي رأيي أنه مع قوة التتار وبأسهم وأعدادهم إلا أن سبب المأساة الإسلامية بعد ذلك لن يكون في الأساس بسبب هذه القوة، وإنما سيكون بسبب الفرقة والتشتت والتشرذم بين ممالك المسلمين.. وصدق الله إذ يقول:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
فجعل الله الفشل قريناً للتنازع.. والمسلمون كانوا في تنازع مستمر، وخلاف دائم.. وعندما كانت تحدث بعض فترات الهدنة في الحروب مع التتار - كما سنرى- كان المسلمون يغيرون على بعضهم, ويأسرون بعضهم, ويقتلون بعضهم...!! وقد عُلم يقيناً أن من كانت هذه صفتهم، فلا يكتب لهم النصر أبدًا..
فعن ثوبان أن رسول الله قال: "وإني سَأَلْتُ رَبِّى لأمتي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إني إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ وإني أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا[1]".
فالمسلمون كانوا -في تلك الآونة- يهلك بعضهم بعضًا, ويسبي بعضهم بعضًا... فلا عجب إن غلب عليهم جيش التتار أو غير التتار..
وبالإضافة إلى داء الفرقة فإن هناك خطأ واضحًا في إعداد محمد بن خوارزم ، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة أورجندة إلا أنه ترك كل المساحات الشرقية من دولته دون حماية كافية..! ولكن... لماذا يقع قائد محنك خبير بالحروب في مثل هذا الخطأ الساذج؟!
الواقع أن الخطأ لم يكن تكتيكياً في المقام الأول، ولكنه كان خطأ قلبياً أخلاقيًّا في الأساس.. لقد اهتم محمد بن خوارزم بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، وتهاون جداً في تأمين شعبه، وحافظ جداً على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل الحفاظ على مقدرات وأملاك شعبه.. وعادة ما يسقط أمثال هؤلاء القواد أمام الأزمات التي تعصف بأممهم.. وعادة ما تسقط أيضًا الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة دون إصلاح.. ولننظر ماذا تحمل الأيام لمحمد بن خوارزم وشعبه!!..
-- ماذا فعل جنكيزخان بعد هذه المعركة الأولى؟
تعالوا نتتبع خطواته في البلاد المسلمة!!
* اجتياح بخارى *
=============
لقد جهز جنكيزخان جيشه من جديد، وأسرع إلى اختراق كل إقليم كازاخستان الكبير، ووصل في تقدمه إلى مدينة بخارى المسلمة (في دولة أوزبكستان الآن)، وهي بلدة الإمام الجليل، والمحدث العظيم الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وحاصر جنكيزخان البلدة المسلمة في سنة 616هـ، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان، وكان محمد بن خوارزم شاه بعيدًا عن بخارى في ذلك الوقت.. فاحتار أهل بخارى: ماذا يفعلون؟.. ثم ظهر رأيان:

الرأي الأول
وهو قتال التتار والدفاع عن المدينة.
الرأي الثاني
وهو أخذ الأمان وفتح أبواب المدينة للتتار لتجنب القتل، وما أدرك هؤلاء أن التتار لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة..
وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين: فريق من المجاهدين قرر القتال، وهؤلاء اعتصموا بالقلعة الكبيرة في المدينة، وانضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها.. وفريق آخر من المستسلمين، وهو الفريق الأعظم والأكبر، وهؤلاء قرروا فتح أبواب المدينة، والاعتماد على أمان التتار!..
وفتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار.. ودخل جنكيزخان إلى المدينة الكبيرة.. وأعطى أهلها الأمان فعلا في أول دخوله خديعةً لهم، وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة..
وفعلاً.. بدأ جنكيزخان بحصار القلعة، بل أمر أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة ليسهل اقتحامها، فأطاعوه وفعلوا ذلك!!! وحاصر القلعة عشرة أيام.. ثم فتحها قسرًا.. ولما دخل إليها قاتل من فيها حتى قتلهم جميعًا!!.. ولم يبق بمدينة بخارى مجاهدون..
وهنا بدأ جنكيزخان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها.. ثم اصطفى كل ذلك لنفسه.. ثم أحل المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا بها ما لا يتخيله عقل!.. وأترُك ابن كثير رحمه الله تعالى يصور لكم هذا الموقف كما جاء في كتابه البداية والنهاية فيقول:
"فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله ، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن..!! (ارتكبوا الزنا مع البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها)، فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أُسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى صارت خاوية على عروشها.. !!!".
انتهى كلام ابن كثير.. ولا حول ولا قوة إلا بالله !..
حقًا... لا حول ولا قوة إلا بالله !..
هلكت المدينة المسلمة!!..
هلك المجاهدون الصابرون فيها.. وكذلك هلك المستسلمون المتخاذلون!!..
فعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: "قُلْتُ يَا رَسُولَ الله " أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ : نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ"[2].

وكان الخبث قد كثر في هذه البلاد.. فمن الخبث ألا يرفع المسلمون سيوفهم ليدافعوا عن دينهم وأرضهم وعرضهم.. ومن الخبث أن يصدق المسلمون عهود الكافرين لهم.. ومن الخبث أن يُسلم المسلمون من رفعوا راية الجهاد فيهم إلى عدوهم.. ومن الخبث أن يتفرق المسلمون ويتقاتلوا فيما بينهم، ومن الخبث ألا يحتكم المسلمون إلى كتاب ربهم، وإلى سنة نبيهم محمد..
وهكذا هلكت بخارى في سنة 616هـ!!..
ولكن.. هل كانت هذه آخر المآسي؟!.. هل كانت آخر الكوارث؟!.. لقد كانت هذه أولى صفحات القصة.. كانت بداية الطوفان وبداية الإعصار.. وستكون صفحات القصة القادمة أشد سوادًا وأكثر دماءً..
وسيدخل المسلمون في سنة 617 هـ, وهي -بلا شك- من أبشع وأسوأ وأظلم السنوات التي مرت على المسلمين عبر تاريخهم الطويل.. وهذا هو حديثنا في المقال القادم إن شاء الله .
* أحداث سنة 617هـ *
=================
كانت هذه السنة من أبشع السنوات التي مرت على المسلمين منذ بعثة الرسول، وإلى هذه اللحظة.. لقد علا فيها نجم التتار.. واجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحًا لم يُسبَق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمع به، وما لا يُتخيل أصلاً.. وإنا لله، وإنا إليه راجعون!..
وأرى أنه من المناسب أن نقدم لهذه الأحداث بكلام المؤرخ الإسلامي العلامة "ابن الأثير الجزري" رحمه الله تعالى في كتابه القيم الكامل في التاريخ وكلامه في غاية الأهمية.. ويعتبر به جداً في هذا المجال أكثر من كلام غيره؛ لأنه كان معاصراً لكل هذه الأحداث، وليس من رأى كمن سمع..
اسمعوا ماذا يقول ابن الأثير رحمه الله وهو يقدم لشرحه لقصة التتار في بلاد المسلمين:
"لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدِّم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، إلا أنه حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها.. عمّت الخلائق، وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.. ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله "بختنصر" ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس؟!! وما بنو إسرائيل إلى من قتلوا؟! فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال، فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح"..
كانت هذه مقدمة كتبها ابن الأثير رحمه الله لكلام طويل يفيض ألمًا وحزنًا وهمًا وغمًا..
لقد كانت كارثة على العالم الإسلامي.. كارثة بكل المقاييس.. كارثة بمقاييس الماضي والحاضر.. وكارثة أيضًا بمقاييس المستقبل.. فإن هذه المصيبة فعلاً تتضاءل إلى جوارها كثير من مصائب المسلمين في كل العصور..
-- ماذا حدث في سنة 617هجرية؟
* غزو سمرقند *
============
فبعد أن دمر التتار مدينة بخارى العظيمة، وأهلكوا أهلها، وحرّقوا ديارها ومساجدها ومدارسها، انتقلوا إلى المدينة المجاورة "سمرقند" (وهي أيضاً في دولة أوزبكستان الحالية)، واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسارى المسلمين من مدينة بخارى، وكما يقول ابن الأثير: "فساروا بهم على أقبح صورة، فكل من أعيا وعجز عن المشي قتل"..
-- أما لماذا كانوا يصطحبون الأسارى معهم؟ فلأسباب كثيرة:
أولاً: كانوا يعطون كل عشرة من الأسارى علمًا من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظن أنهم من التتار، وبذلك تكثر الأعداد في أعين أعدائهم بشكل رهيب، فلا يتخيلون أنهم يحاربونهم، وتبدأ الهزيمة النفسية تدب في قلوب من يواجهونهم..
ثانياً: كانوا يجبرون الأسارى على أن يقاتلوا معهم ضد أعدائهم.. ومن رفض القتال أو لم يظهر فيه قوة قتلوه..
ثالثاً: كانوا يتترسون بهم عند لقاء المسلمين، فيضعونهم في أول الصفوف كالدروع لهم، ويختبئون خلفهم، ويطلقون من خلفهم السهام والرماح، وهم يحتمون بهم..
رابعاً: كانوا يقتلونهم على أبواب المدن لبث الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار..
خامساً: كانوا يبادلون بهم الأسارى في حال أسر رجال من التتار في القتال.. وهذا قليل لقلة الهزائم في جيش التتار..
* تدمير التتار مدينة سمرقند :
=================
كانت "سمرقند" من حواضر الإسلام العظيمة، ومن أغنى مدن المسلمين في ذلك الوقت، ولها قلاع حصينة، وأسوار عالية.. ولقيمتها الاستراتيجية والاقتصادية فقد ترك فيها "محمد بن خوارزم شاه" زعيم الدولة الخوارزمية خمسين ألف جندي خوارزمي لحمايتها.. هذا فوق أهلها، وكانوا أعدادًا ضخمة تقدّر بمئات الآلاف.. أما "محمد بن خوارزم شاه" نفسه فقد استقر في عاصمة بلاده مدينة "أورجندة".
وصل جنكيزخان إلى مدينة "سمرقند" وحاصرها من كل الاتجاهات.. وكان من المفروض أن يخرج له الجيش الخوارزمي النظامي، ولكن لشدة الأسف.. لقد دب الرعب في قلوبهم، وتعلقوا بالحياة تعلقاً مخزياً، فأبوا أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المسلمة!!..
فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل أن يخرج للدفاع عنهم.. وقرر البعض من الذين في قلوبهم حمية من عامة الناس أن يخرجوا لحرب التتار.. وبالفعل خرج سبعون ألفاً من شجعان البلد، ومن أهل الجَلد، ومن أهل العلم.. خرجوا جميعاً على أرجلهم دون خيول ولا دواب.. ولم يكن لهم من الدراية العسكرية حظ يمكنهم من القتال.. ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعله الجيش المتهاون الذي لم تستيقظ نخوته بعد..
وعندما رأى التتار أهل "سمرقند" يخرجون لهم قرروا القيام بخدعة خطيرة، وهي الانسحاب المتدرج من حول أسوار المدينة، في محاولة لسحب المجاهدين المسلمين بعيداً عن مدينتهم.. وهكذا بدأ التتار يتراجعون بعيداً عن "سمرقند" وقد نصبوا الكمائن خلفهم.. ونجحت خطة التتار, وبدأ المسلمون المفتقدون لحكمة القتال يطمعون فيهم ويتقدمون خلفهم.. حتى إذا ابتعد رجال المسلمين عن المدينة بصورة كبيرة أحاط جيش التتار بالمسلمين تماماً.. وبدأت عملية تصفية بشعة لأفضل رجال "سمرقند"..
-- كم من المسلمين قتل في هذا اللقاء غير المتكافئ؟! لقد قتلوا جميعاً!!.. ، لقد استشهدوا عن آخرهم!!..
فقد المسلمون في "سمرقند" سبعين ألفاً من رجالهم دفعة واحدة.. (أتذكرون كيف كانت مأساة المسلمين يوم فقدوا سبعين رجلاً فقط في غزوة أحد؟!). والحق أن هذه لم تكن مفاجأة، بل كان أمرًا متوقعًا؛ لقد دفع المسلمون ثمن عدم استعدادهم للقتال، وعدم اهتمامهم بالتربية العسكرية لأبنائهم، وعدم الاكتراث بالقوى الهائلة التي تحيط بدولتهم..
وعاد التتار من جديد لحصار "سمرقند"..
وأخذ الجيش الخوارزمي النظامي قراراً مهيناً!!..
لقد قرروا أن يطلبوا الأمان من التتار على أن يفتحوا أبواب البلدة لهم.. وذلك مع أنهم يعلمون أن التتار لا يحترمون العهود، ولا يرتبطون باتفاقيات، وما أحداث بخارى منهم ببعيد، ولكن تمسكهم بالحياة إلى آخر درجة جعلهم يتعلقون بأهداب أمل مستحيل.. وقال لهم عامة الناس: إن تاريخ التتار معهم واضح.. ولكنهم أصروا على التسليم.. فهم لا يتخيلون مواجهة مع التتار، وبالطبع وافق التتار على إعطاء الأمان الوهمي للمدينة، وفتح الجيش أبواب المدينة بالفعل، ولم يقدر عليهم عامة الناس، فقد كان الجيش الخوارزمي كالأسد على شعبه، وكالنعامة أمام جيوش الأعداء!!..
وفتح الجنود الأبواب للتتار وخرجوا لهم مستسلمين، فقال لهم التتار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم، ونحن نسيّركم إلى مأمنكم.. ففعلوا ذلك في خنوع، ولما أخذ التتار أسلحتهم ودوابهم فعلوا ما كان متوقعاً منهم.. لقد وضعوا السيف في الجنود الخوارزمية فقتلوهم عن آخرهم!!.. ودفع الجند جزاء ذلتهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
ثم دخل التتار مدينة "سمرقند" العريقة، ففعلوا بها مثلما فعلوا سابقاً في "بخارى".. فقتلوا أعداداً لا تحصى من الرجال والنساء والأطفال، ونهبوا كل ثروات البلد، وانتهكوا حرمات النساء، وعذبوا الناس بأنواع العذاب البشعة بحثاً عن أموالهم، وسبوا أعداداً هائلة من النساء والأطفال، ومن لم يصلح للسبي لكبر سنه، أو لضعف جسده قتلوه، وأحرقوا الجامع الكبير، وتركوا المدينة خراباً!!..
وليت شعري!!..
كيف سمع المسلمون في أطراف الأرض آنذاك بهذه المجازر ولم يتحركوا؟!
كيف وصل إليهم انتهاك كل حرمة للمسلمين، ولم يتجمعوا لقتال التتار؟!
كيف علموا بضياع الدين، وضياع النفس، وضياع العرض، وضياع المال، ثم ما زالوا متفرقين؟!.. لقد كان كل حاكم من حكام المسلمين يحكم قطراً صغيراً، ويرفع عليه علماً، ويعتقد أنه في أمان ما دامت الحروب لا تدور في قطره المحدود..!! لقد كانوا يخدعون أنفسهم بالأمان الوهمي حتى لو كانت الحرب على بعد أميال منهم!.. ولا تندهش مما تقرأ الآن.. وخبرني بالله عليك: كم جيشًا مسلمًا تحرك لنجدة المسلمين في الفلوجة أو في فلسطين؟؟!
لم يفكر حاكم من حكام المسلمين آنذاك أن الدائرة حتماً ستدور عليه.. وأن ما حدث في بخارى وسمرقند ما هو إلا مقدمة لأحداث دامية أليمة سيعاني منها كل المسلمين، ولن ينجو منها قريب ولا بعيد.. ولا حول ولا قوة إلا بالله .




* غزو التتار بلاد فارس وخراسان *
====================
* اجتياح فارس *
============
كانت المسافة بين الفرقة التترية الصغيرة وبين القوة الرئيسية لجنكيزخان في "سمرقند" تزيد على ستمائة وخمسين كيلومترًا.. هذا في الطرق السوية والمستقيمة، فإذا أخذت في الاعتبار الطبيعة الجبلية لهذه المنطقة، وإذا أخذت في الاعتبار أيضاً الأنهار التي تفصل بين "سمرقند" ومنطقة بحر قزوين والتي كانت تعتبر من العوائق الطبيعية الصعبة، بالإضافة إلى أن التتار ليسوا من سكان هذه المناطق ولا يعرفون مسالكها ودروبها وطرقها الفرعية، كل ذلك إلى جانب العداء الشديد الذي يكنه أهل هذه المناطق المنكوبة للتتار.. إذا أخذت كل ما سبق في الاعتبار فإنك تعلم أن جيش التتار أصبح مقطوعاً عن مدده في "سمرقند" بصورة كبيرة.. وأصبح في موقف حرج لا يحسد عليه بالمرة.. وهو ليس بالكبير العدد.. إنما هو عشرون ألفاً فقط.. فإذا أضفت إلى كل الاعتبارات السابقة الكثافة السكانية الإسلامية الهائلة في تلك المناطق أدركت أن فرقة التتار ستهلك لا محالة؛ فلو خرج عليها أهل البلاد -وقد تجاوزوا الملايين بلا مبالغة- فإن التتار لا يقدرون عليهم بأي حال من الأحوال..
كان هذا هو تحليل الورقة والقلم..

-- فماذا حدث على أرض الواقع؟!

لقد شاهدنا أمراً عجيباً مخزياً مشيناً!!..
لقد دبت الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين.. وتعلقوا بدنياهم الذليلة تعلقاً لا يُفهم.. ورضوا أن يبقوا في قراهم ومدنهم ينتظرون الموت على أيدي الفرقة التترية الصغيرة..
فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا". فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ الله فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ". فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهومَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ"[1].
لقد سيطر حب الدنيا على القلوب، وكره المسلمون الموت في سبيل الله ؛ فأصبحوا كالغثاء الذي يحمله السيل.. إذا توجه السيل شرقاً شرَّقوا معه، وإذا توجه السيل غرباً غرَّبوا معه، لا رأي ولا هدف ولا طموح، ونزع اللهمهابة المسلمين من قلوب التتار؛ فما عادوا يكترثون بالأعداد الغفيرة، وألقى في قلوب المسلمين الوهن والضعف والخور حتى كانت أقدام المائة من المسلمين لا تقوى على حملهم إذا واجهوا تترياً واحداً!!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..

-- ماذا فعلت الفرقة التترية الخاصة؟
لقد عادوا من شاطئ بحر (قزوين) إلى بلاد "مازندران" (في إيران) فملكوها في أسرع وقت، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها، وكانت من أشد بلاد المسلمين قوة.. حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة جميعها من العراق إلى أقاصي خراسان أيام عمر بن الخطاب لم يستطيعوا أن يدخلوا مازندران، ولم تُدخل إلا في زمان سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف.. ولكن التتار دخلوها بسرعة عجيبة، لا لقوتهم ولكن لضعف نفسيات أهلها في ذلك الوقت، ولما دخلوها فعلوا بها ما فعلوه في غيرها، فقتلوا وعذبوا وسبوا ونهبوا وأحرقوا البلاد..

ثم اتجهوا من مازندران إلى الري (مدينة إيرانية كبيرة)، وسبحان الله !! وكأن الله قد أراد أن يتم الذلة لمحمد بن خوارزم شاه حتى بعد وفاته؛ فإن التتار وهم في طريقهم من مازندران إلى الري وجدوا في طريقهم والدته ونساءه ومعهم الأموال الغزيرة والذخائر النفيسة التي لم يسمع بمثلها، فأخذوا كل ذلك سبياً وغنيمة، وأرسلوه من فورهم إلى جنكيزخان المتمركز في "سمرقند" آنذاك..
ثم وصل التتار إلى الري فملكوها ونهبوها وسبوا الحريم واسترَقوا الأطفال، وفعلوا الأفعال التي لم يُسمع بمثلها، ثم فعلوا مثل ذلك في المدن والقرى المحيطة حتى دخلوا مدينة قزوين (من المدن الإيرانية أيضًا) واقتتلوا مع أهلها في داخل البلد، وقتلوا من أهل قزوين المسلمين ما يزيد عن أربعين ألفًا!!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله !!..

-- ماذا فعل جنكيزخان في سنة 617 هجرية بعد مطاردة محمد بن خوارزم شاه؟

بعد أن اطمأن جنكيزخان إلى هروب "محمد بن خوارزم شاه" زعيم البلاد في اتجاه الغرب، وانتقاله من مدينة إلى أخرى هرباً من الفرقة التترية المطاردة له، بدأ جنكيزخان يبسط سيطرته على المناطق المحيطة بسمرقند، وعلى الأقاليم الإسلامية الضخمة الواقعة في جنوب "سمرقند" وشمالها..
وجد جنكيزخان أن أعظم الأقاليم وأقواها في هذه المناطق: إقليم خوارزم وإقليم خراسان..

أما إقليم خراسان فإقليم شاسع به مدن عظيمة كثيرة مثل بلخ ومرو ونيسابور وهراة وغزنة وغيرها (وهو الآن في شرق إيران وشمال أفغانستان)..
وأما إقليم خوارزم فهو الإقليم الذي كان نواة للدولة الخوارزمية، واشتهر بالقلاع الحصينة والثروة العددية والمهارة القتالية، وهو يقع إلى الشمال الغربي من "سمرقند"، ويمر به نهر جيحون (وهو الآن في دولتي أوزبكستان وتركمنستان).. ولكن جنكيزخان أراد القيام بحرب معنوية تؤثر في نفسيات المسلمين قبل اجتياح هذه الأقاليم العملاقة، فقرر البدء بعمليات إبادة وتدمير تبث الرعب في قلوب المسلمين في الإقليمين الكبيرين خوارزم وخراسان، فأخرج جنكيزخان من جيشه ثلاث فرق:

فرقة لتدمير إقليم "فرغانة" (في أوزبكستان الآن) وهو على بعد حوالي خمسمائة كيلومتر إلى الشرق من "سمرقند"..

فرقة لتدمير مدينة "ترمذ" (في تركمنستان الآن) وهي مدينة الإمام الترمذي صاحب السنن، على بعد حوالي مائة كيلومتر جنوب "سمرقند"..

فرقة لتدمير قلعة "كلابة" وهي من أحصن قلاع المسلمين على نهر جيحون..

وقد قامت الفرق الثلاث بدورها التدميري كما أراد جنكيزخان، فاستولت على كل هذه المناطق، وأعملت فيها القتل والأسر والسبي والنهب والتخريب والحرق، مثلما اعتاد التتار أن يفعلوا في الأماكن الأخرى، ووصلت الرسالة التترية إلى كل الشعوب المحيطة: إن التتار لا يرتوون إلا بالدماء، ولا يسعدون إلا بالخراب والتدمير، وأنهم لا يُهزمون، فعمت الرهبة منهم أرجاء المعمورة، ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
ولما عادت هذه الجيوش من مهمتها القبيحة بدأ جنكيزخان يعد للمهمة الأقبح.. بدأ يعد لاجتياح إقليمي خراسان وخوارزم..
آخر تعديل بواسطة شيرين مدحت في 24/11/11 12:01، تم التعديل مرة واحدة.

Re: القصة الكاملة لخطط ومؤامرات وغزو التتار لبلاد المسلمين وانهاء الخلافة الإسلامية

مشاركة غير مقروءة بواسطة شيرين مدحت »

* وفاة محمد بن خوارزم شاه *
=================
* فرار محمد بن خوارزم شاه :-
===================
استقر جنكيزخان -لعنه الله - بسمرقند؛ فقد أعجبته المدينة العملاقة التي لم ير مثلها قبل ذلك، وأول ما فكر فيه هو قتل رأس هذه الدولة ليسهل عليه بعد ذلك احتلالها دون خوف من تجميع الجيوش ضده؛ فأرسل عشرين ألفاً من فرسانه يطلبون "محمد بن خوارزم شاه" زعيم البلاد.. وإرسال عشرين ألف جندي فقط فيه إشارة كبيرة إلى استهزاء جنكيزخان بمحمد بن خوارزم وبأمته؛ فهذا الرقم الهزيل لا يقارن بالملايين المسلمة التي سيتحرك هذا الجيش التتري في أعماقها.. ولنشاهد ماذا فعلت هذه الكتيبة التترية الصغيرة.. قال لهم جنكيزخان: "اطلبوا خوارزم شاه أين كان، ولو تعلق بالسماء..!!"
فانطلق الفرسان التتار إلى مدينة "أورجندة" حيث يستقر "محمد بن خوارزم شاه"، وهي مدينة تقع على الشاطئ الغربي من نهر جيحون (نهر أموداريا)، وجاء الجنود التتار من الجانب الشرقي للنهر، وهكذا فصل النهر بين الفريقين، وتماسك المسلمون، ولكن هذا التماسك لم يكن إلا لعلمهم أن النهر يفصل بينهم وبين التتار، وليس مع التتار سفن!!.. خريطة بلاد ما وراء النهر فضلا.
* فماذا فعل التتار؟!
===========
لقد أخذ التتار في إعداد أحواض خشبية كبيرة ثم ألبسوها جلود البقر حتى لا يدخل فيها الماء، ثم وضعوا في هذه الأحواض سلاحهم وعتادهم ومتعلقاتهم، ثم أنزلوا الخيول في الماء، والخيول تجيد السباحة، ثم أمسكوا بأذناب الخيول، وأخذت الخيول تسبح والجنود خلفها.. يسحبون خلفهم الأحواض الخشبية بما فيها من سلاح وغيره..
وبهذه الطريقة عبر جيش التتار نهر جيحون، ولا أدري أين كانت عيون الجيش الخوارزمي المصاحب لمحمد بن خوارزم شاه!.. وفوجئ المسلمون بجيش التتار إلى جوارهم، ومع أن أعداد المسلمين كانت كبيرة إلا أنهم كانوا قد مُلئوا من التتار رعباً وخوفاً، وما كانوا يتماسكون إلا لاعتقادهم أن النهر الكبير يفصل بينهم وبين وحوش التتار.. أما الآن وقد أصبح التتار على مقربة منهم فلم يصبح أمامهم إلا طريق واحد.. أتراه طريق القتال؟!
* لا.. بل طريق الفرار!!.. :-
================
وكما يقول ابن الأثير: "ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته" واتجه إلى نيسابور (في إيران حالياً)، أما الجند فقد تفرق كل منهم في جهة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله .. وأما التتار فكانت لهم مهمة محددة وهي البحث عن "محمد بن خوارزم شاه"، ولذلك فقد تركوا أورجنده، وانطلقوا في اتجاه نيسابور مخترقين الأراضي الإسلامية في عمقها.. وهم لا يزيدون عن عشرين ألفاً!! وجنكيزخان ما زال مستقراً في سمرقند، وكان من الممكن أن تُحاصَر هذه المقدمة التترية في أي بقعة من بقاع البلاد الإسلامية التي يتجولون فيها.. لكن الرعب كان قد استولى على قلوب المسلمين؛ فكانوا يفرون منهم في كل مكان، وقد أخذوا طريق الفرار اقتداءً بزعيمهم الذي ظل يفر من بلد إلى آخر كما نرى..
ولم يكن التتار في هذه المطاردة الشرسة يتعرضون لسكان البلاد بالسلب أو النهب أو القتل؛ لأن لهم هدفاً واضحاً، فهم لا يريدون أن يضيعوا وقتاً في القتل وجمع الغنائم، إنما يريدون فقط اللحاق بالزعيم المسلم، ومن جانب آخر فإن الناس لم يتعرضوا لهم لئلا يثيروا حفيظتهم؛ فيصيبهم من أذاهم!..
وهكذا وصل التتار إلى مسافة قريبة من مدينة نيسابور العظيمة في فترة وجيزة، ولم يتمكن "محمد بن خوارزم شاه" من جمع الأنصار والجنود، فالوقت ضيق، والتتار في أثره، فلما علم بقربهم من نيسابور، ترك المدينة واتجه إلى مدينة "مازندران" (من مدن إيران)، فلما علم التتار بذلك لم يدخلوا نيسابور بل اتجهوا خلفه مباشرة، فترك مازندران إلى مدينة "الري", ثم إلى مدينة "همذان" (وهما من المدن الإيرانية أيضًا)، والتتار في أثره، ثم عاد إلى مدينة "مازندران" في فرار مخزٍ فاضح.. ثم اتجه إلى إقليم "طبرستان" (الإيراني) على ساحل بحر الخزر (بحر قزوين) حيث وجد سفينة فركبها وسارت به إلى عمق البحر، وجاء التتار ووقفوا على ساحل البحر، ولم يجدوا ما يركبونه خلفه..
لقد نجحت خطة الزعيم الخوارزمي المسلم..!! نجحت خطة الفرار!!
* وفاة محمد بن خوارزم شاه :-
==================
وصل الزعيم محمد بن خوارزم في فراره إلى جزيرة في وسط بحر قزوين, وهناك رضي بالبقاء فيها في قلعة كانت هناك، في فقر شديد وحياة صعبة.. وهو الملك الذي ملك بلاداً شاسعة، وأموالاً لا تُعدّ.. ولكن رضي بذلك لكي يفر من الموت!..
وسبحان الله .. فإن الموت لا يفر منه أحد.. فما هي إلا أيام، حتى مات "محمد بن خوارزم شاه" في هذه الجزيرة في داخل القلعة وحيداً طريداً شريداً فقيرًا؛ حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنوه به، فكفنوه في فراش كان ينام عليه!!..
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
أيهما أشرف يا إخواني؟؟.. أن يموت الزعيم المسلم ذليلاً في هذه الجزيرة في عمق البحر أم يموت رافع الرأس ثابت الجأش مطمئن القلب في ميدان الجهاد؟؟!..
أيهما أشرف.. أن يموت مقبلاً أم أن يموت مدبرًا؟؟!..
أيهما أشرف.. أن يموت هاربًا أم أن يموت شهيدًا؟؟!..
إن الإنسان لا يختار ميعاد موته، ولكنه يستطيع أن يختار طريقة موته.. الشجاعة لا تقصر الأعمار.. كما أن الفرار والهرب والجبن لا تطيلها أبداً.. والذي يعيش مجاهداً في سبيل الله يموت مجاهداً في سبيل الله ، وإن مات على فراشه..
فعن سهل بن حنيف أن رسول الله قال:"مَنْ سَأَلَ الله الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ الله مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ"[1].
* صفات محمد بن خوارزم شاه *
===================
تحدث ابن الأثير عن سيرة "محمد بن خوارزم شاه" وصفاته الذاتية، وفيها أموراً عجيبة.. فعندما تقرأ صفته تجد أنك أمام عظيم من عظماء المسلمين، فإذا راجعت حياة الرجل الأخيرة وخاتمته وفراره وهزيمته تبدى لك غير ذلك.. فما السر في حياة هذا الرجل؟!
يقول ابن الأثير في ذكر سيرته:


"وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهوراً تقريباً، واتسع ملكه وعظم محله وأطاعه العالم بأسره، وملك من حد العراق إلى تركستان، وملك بلاد غزنة (في أفغانستان) وبعض الهند، وملك سجستان وكرمان (باكستان) وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس (وكلها مناطق في إيران)..".


إذن من هذه الفقرة يتضح أنه كان عظيماً في مُلكه.. استقر له الوضع في بلاد واسعة لفترة طويلة.. ومن هنا يظهر حسن إدارته لبلاده، حتى إن ابن الأثير يقول في فقرة أخرى: " وكان صبوراً على التعب وإدمان السَير، غير متنعم ولا مقبل على اللذات، إنما همه في الملك وتدبيره، وحفظه وحفظ رعاياه"..


وعندما تحدث عن حياته الشخصية العلمية قال: "وكان فاضلاً عالماً، وكان مُكرماً للعلماء محباً لهم محسناً إليهم، يكثر مجالستهم ومناظرتهم بين يديه، وكان معظماً لأهل الدين، مقبلاً عليهم، متبركاً بهم"..


هذا الوصف لمحمد بن خوارزم شاه يمثل لغزاً كبيراً للقارئ.. فكيف يكون على هذه الصفة النبيلة، ثم تحدث له هذه الهزائم المنكرة؟! وكيف لا يجد جيشاً من كل أطراف مملكته الواسعة يصبر على حرب التتار.. حتى ينتهي هذه النهاية المؤسفة؟!..


وكنت في حيرة من أمري وأنا أحلل موقفه.. لولا أني وجدت نصاً في مكان آخر في كلام ابن الأثير أيضاً يفسر كثيراً من الألغاز في حياة هذا الرجل.. وفي تفسير هذه الحقبة من حياة الأمة الإسلامية.


** يقول ابن الأثير:-
-----------------------
"وكان "محمد بن خوارزم شاه" قد استولى على البلاد، وقتل ملوكها، وأفناهم، وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها، فلما انهزم من التتار لم يبق في البلاد من يمنعهم ولا من يحميها"..


في هذا النص تفسير واضح جلي لمدى المأساة التي كان يعيشها المسلمون في ذلك الوقت.. لقد كان "محمد بن خوارزم شاه" جيداً في ذاته وفي إدارته، لكنه قطع كل العلاقات بينه وبين من حوله من الأقطار الإسلامية.. لم يتعاون معها أبداً، بل على العكس قاتلها الواحدة تلو الأخرى.. وكان يقتل ملوك هذه الأقطار ويضمها إلى مملكته، ولا شك أن هذا خلف أحقاداً كبيرة في قلوب سكان هذه البلاد، وهذا ليس من الحكمة في شيء.. انظروا إلى رسول الله عندما كان يفتح البلاد، كان يولي زعماء هذه البلاد عليها ويحفظ لهم مكانتهم ويبقى لهم ملكهم فيضمن بذلك ولاءهم وحب الناس له.. فأبقى على حكم البحرين ملكها المندر بن ساوى، وأبقى على حكم عمان ملكَيْها: جيفر وعباد.. بل وأبقى على اليمن واليها باذان بن سامان الفارسي عندما أسلم، وهكذا...
هذه سياسة وحكمة في آنٍ معًا.. هذا مزج جميل بين الحزم وبين الحب.. هذا أسلوب راقٍ في الإدارة..
أما هنا في قصتنا.. فقد افتقد الزعيم محمد بن خوارزم هذا الجمع الحكيم بين الحب والحزم.. وأصبح حاكماً بقوّته لا بحب الناس له، فلما احتاج إلى الناس لم يجدهم، ولما احتاج إلى الأعوان افتقر إليهم.. فلم تكن الصراعات بين الخلافة العباسية والدولة الخوارزمية فقط، بل قامت الدولة الخوارزمية نفسها على صراعات داخلية وخارجية، ومكائد كثيرة، ومؤامرات عديدة.. فلم تتوحد القلوب في هذه البلاد، ومن ثم لم تتوحد الصفوف ولم يحدث النصر.. وما كان للنصر أن يتحقق والأمة على هذا النحو..


{إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].


كان هذا هو سر اللغز في حياة قائد عالم فقيه اتسع ملكه وكثرت جيوشه.. ثم مات طريداً شريداً وحيداً في جزيرة نائية في عمق البحر..


فعن أبي الدرداء: " عَلَيْكَم بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ"[2]


أي يأكل الغنم القاصية..


************************












* اجتياح خراسان *
==============
مدينة بلخ وما حولها (شمال أفغانستان الآن)
هذه المدينة تقع جنوب مدينة ترمذ التي دمرها التتار منذ أيام قلائل، ولا شك أن أخبار مدينة ترمذ قد وصلت إليهم.. وكان في قلوب أهل هذه البلدة رعب شديد من التتار، فلما وصلت جيوش التتار إليهم طلبوا منهم الأمان، وعلى غير عادة التتار فقد قبلوا أن يعطوهم الأمان، ولم يتعرضوا لهم بالسلب أو النهب، وقد تعجبتُ من فعل التتار مع أهل بلخ! وتعجبتُ لماذا لم يقتلوهم كما هي عادتهم؟! ولكن زال العجب عندما مرت الأيام ووجدت أن جنكيزخان قد عاد إلى بلخ وأمر أهلها أن يأتوا معه ليعاونوه في فتح مدينة مسلمة أخرى هي "مرو" كما سيأتي، والغريب أن أهلها جاءوا معه بالفعل لمحاربة أهل مرو!!.. والجميع من المسلمين.. ولكن الهزيمة النفسية الرهيبة التي كان يعاني منها أهل بلخ نتيجة الأعمال البشعة التي تمت في مدينة ترمذ المجاورة لهم جعلتهم ينصاعون لأوامر جنكيزخان، حتى وإن كانوا سيقتلون إخوانهم!!.. وبذلك يكون جنكيزخان قد وفّر قواته لمعارك أخرى، وضرب المسلمين بعضهم ببعض..

وإن كنا نذكر ذلك على سبيل العجب الآن، فقد رأيناه في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي، وما زلنا نراه، فقد استخدم الأمريكان أهل الشمال في أفغانستان (نفس منطقة بلخ) لحرب المسلمين في كابل سنة2002 ميلادية، واستخدم الأمريكان أيضاً أكراد الشمال العراقي في حرب بقية العراق ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
اجتياح الطالقان
اتجهت فرقة من التتار من "سمرقند" إلى منطقة الطالقان (شمال شرق أفغانستان بالقرب من طاجكستان) وقد صعب عليهم فتحها لمناعة حصونها، فأرسلوا إلى جنكيزخان فجاء إليها وحاصرها شهوراً حتى تم فتحها، وقتلوا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، ونهبوا أموالها ومتاعها كما كانت عادتهم..

* مأساة مرو*
==========
ومرو مدينة كبيرة جداً في ذلك الوقت، وتقع الآن في دولة تركمنستان المسلمة، على بعد أربعمائة وخمسين كيلومترًا تقريباً غرب مدينة بلخ الأفغانية، وقد ذهب إليها جيش كبير من التتار على رأسه بعض أولاد جنكيزخان، واستعانوا في هذه الموقعة بأهل بلخ المسلمين كما ذكرنا من قليل.. وتحرك الجيش التتري الرهيب الذي لم تذكر الروايات عدده، ولكنه كان جيشاً هائلاً يقدر بمئات الألوف..
هذا غير المسلمين من شمال أفغانستان، وعلى أبواب مرو وجد التتار أن المسلمين في مرو قد جمعوا لهم خارج المدينة جيشاً يزيد على مائتي ألف رجل، وهو جيش كبير جداً بقياسات ذلك الزمان، وكانت موقعة رهيبة بين الطرفين على أبواب مرو.. وحدثت المأساة العظيمة، ودارت الدائرة على المسلمين، وانطلق التتار يذبحون في الجيش المسلم حتى قتلوا معظمهم، وأسروا الباقي، ولم يسلم إلا قليل القليل، ونهبت الأموال والأسلحة والدواب من الجيش.. ويعلق ابن الأثير في أسى وإحباط على هذه الموقعة فيقول: "فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا، فصبر المسلمون، وأما التتر فلا يعرفون الهزيمة"..
وتخيل جنداً يقاتلون عدوهم وهم يعتقدون أن هذا العدو لا يُهزم.. كيف تكون نفسياتهم؟ وكيف تكون معنوياتهم؟

وقعت الهزيمة المرة بالجيش المسلم، وفتح الطريق لمدينة مرو ذات الأسوار العظيمة.. وكان بها من السكان ما يزيد عن سبعمائة ألف مسلم من الرجال والنساء والأطفال..

وحاصر التتار المدينة الكبيرة، وقد دب الرعب في قلوب أهلها بعد أن فني جيشهم أمام عيونهم، ولم يفتحوا الأبواب للتتار مدة أربعة أيام، وفي اليوم الخامس أرسل قائد جيش التتار (ابن جنكيزخان) رسالة إلى قائد مدينة مرو يقول فيها: "لا تهلك نفسك وأهل البلد، واخرج إلينا نجعلك أمير هذه البلدة، ونرحل عنك"..
فصدق أمير البلاد ما قاله زعيم التتر، أو أوهم نفسه بالتصديق، وخرج إلى قائد التتار، فاستقبله قائد التتار استقبالاً حافلاً، واحترمه وقرّبه، ثم قال له في خبث: "أخرج لي أصحابك ومقربيك ورؤساء القوم حتى ننظر من يصلح لخدمتنا، فنعطيه العطايا، ونقطع له الإقطاعات، ويكون معنا"، فأرسل الأمير المخدوع إلى معاونيه وكبار وزرائه وجنده لحضور الاجتماع الهام مع ابن جنكيزخان شخصياً.. وخرج الوفد الكبير إلى التتار، ولما تمكن منهم التتار قبضوا عليهم جميعاً وقيدوهم بالحبال!..
-- ثم طلبوا منهم أن يكتبوا قائمتين طويلتين:
--------------------------------------------
- أما القائمة الأولى: فتضم أسماء كبار التجار وأصحاب الأموال في مدينة مرو..
- وأما القائمة الثانية: فتضم أسماء أصحاب الحرف والصناع المهرة.. ثم أمر ابن جنكيزخان أن يأتي التتار بأهل البلد أجمعين، فخرجوا جميعاً من البلد حتى لم يبق فيها واحد، ثم جاءوا بكرسي من ذهب قعد عليه ابن جنكيزخان ثم أصدر الأوامر الآتية:

الأمر الأول: أن يأتوا بأمير البلاد وبكبار القادة والرؤساء فيقتلوا جميعاً أمام عامة أهل البلد!! وبالفعل جاءوا بالوفد الكبير وبدءوا في قتله واحداً واحداً بالسيف، والناس ينظرون ويبكون..

الأمر الثاني: إخراج أصحاب الحرف والصناع المهرة، وإرسالهم إلى منغوليا للاستفادة من خبراتهم الصناعية هناك..

الأمر الثالث: إخراج أصحاب الأموال وتعذيبهم حتى يخبروا عن كل مالهم، ففعلوا ذلك ومنهم من كان يموت من شدة الضرب ولا يجد ما يكفي لافتداء نفسه..

الأمر الرابع: دخول المدينة وتفتيش البيوت بحثاً عن المال والمتاع النفيس، حتى إنهم نبشوا قبر السلطان "سنجر" أملاً في وجود أموال أو ذهب معه في قبره..
واستمر هذا البحث ثلاثة أيام..

ثم الأمر الخامس الرهيب:
أمر ابن جنكيزخان - لعنه الله ولعن أباه - أن يُقتل أهل البلاد أجمعين!!!!..
وبدأ التتار يقتلون كل سكان مرو.. يقتلون الرجال.. والنساء.. والأطفال!!..
قالوا: إن المدينة عصت علينا وقاومت، ومن قاوم فهذا مصيره..
يقول ابن الأثير: "وأمر ابن جنكيزخان بعد أن قتلوا جميعاً أن يقوم التتار بإحصاء القتلى، فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون!!"..
قتل من مدينة مرو سبعمائة ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما لا يتخيل، وحقاً فإنه لم تمر على البشرية منذ خلق آدم ما يشبه هذه الأفعال من قريب ولا بعيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
وفنيت مدينة مرو، واختفى ذكرها من التاريخ!!!..

* اجتياح نيسابور *
============
وهي مدينة كبيرة أخرى من مدن إقليم خراسان، (وهي تقع الآن في الشمال الشرقي لدولة إيران)، واتجه إليها التتار بعد أن تركوا خلفهم مدينة مرو وقد خربت تماماً، وهناك حاصروا مدينة نيسابور لمدة خمسة أيام، ومع أنه كان بالمدينة جمع لا بأس به من الجنود المسلمين، إلا أن أخبار مرو كانت قد وصلت إلى نيسابور، فدب الرعب والهلع في أوصال المسلمين، وما استطاعوا أن يقاوموا التتار، ودخل التتار المدينة، وأخرجوا كل أهلها إلى الصحراء، وجاء من أخبر ابن جنكيزخان أن بعضاً من سكان مدينة مرو قد سلم من القتل، وذلك أنهم ضربوا بالسيف ضربات غير قاتلة، وظنهم التتار قد ماتوا فتركوهم، ولذا فقد أمر ابن جنكيزخان في مدينة نيسابور أن يقتل كل رجال البلد بلا استثناء، وأن تقطع رؤوسهم لكي يتأكدوا من قتلهم، ثم قام اللعين بسبي كل نساء المسلمين في مدينة نيسابور، وأقاموا في المدينة خمسة عشر يوماً يفتشون الديار عن الأموال والنفائس.. ثم تركوا نيسابور بعد ذلك أثراً بعد عين، ولا حول ولا قوة إلا بالله ..

* اجتياح هراة *
===========
وهي من أحصن البلاد الإسلامية، وكانت مدينة كبيرة جداً كذلك، وتقع في الشمال الغربي لأفغانستان، وتوجه إليها ابن جنكيزخان بقواته البشعة، ولم تسلم المدينة من المصير الذي قابلته مدينتا مرو ونيسابور، فقتل فيها كل الرجال، وسبيت كل النساء، وخربت المدينة كلها وأحرقت.. وإن كان أميرها - وكان يُدعى: "ملك خان" - قد استطاع الهروب بفرقة من جيشه في اتجاه غزنة في جنوب أفغانستان!! وهكذا كان الملوك والرؤساء في ذلك الزمن يُوَفَّقُون إلى الهروب، بينما تسقط شعوبهم في براثن التتار!!!..

وبسقوط هراة يكون إقليم خراسان قد سقط بكامله في أيدي التتار، ولم يبقوا فيه على مدينة واحدة، وتمت كل هذه الأحداث في عام واحد هو العام السابع عشر بعد ستمائةٍ من الهجرة.. وهذا من أعجب الأمور التي مرت بالأرض على الإطلاق!!!..

Re: القصة الكاملة لخطط ومؤامرات وغزو التتار لبلاد المسلمين وانهاء الخلافة الإسلامية

مشاركة غير مقروءة بواسطة شيرين مدحت »

* الغزو المغولي لأفغانستان وخوارزم *
=======================
* تدمير خوارزم *
============
خوارزم هي مركز عائلة خوارزم شاه، وبها تجمع ضخم جداً من المسلمين، وحصونها من أشد حصون المسلمين بأساً وقوة، وهي تقع الآن على الحدود بين أوزبكستان وتركمنستان، وتقع مباشرة على نهر جيحون، وكانت تمثل للمسلمين قيمة اقتصادية واستراتيجية وسياسية كبيرة..
ولأهمية هذه البلدة فقد وجه إليها جنكيزخان أعظم جيوشه وأكبرها، وقد قام هذا الجيش بحصار المدينة لمدة خمسة أشهر كاملة دون أن يستطيع فتحها، فطلبوا المدد من جنكيزخان، فأمدهم بخلق كثير، وزحفوا على البلد زحفاً متتابعاً، وضغطوا عليه من أكثر من موضع حتى استطاعوا أن يحدثوا ثغرة في الأسوار، ثم دخلوا إلى المدينة، ودار قتال رهيب بين التتار والمسلمين، وفني من الفريقين عدد كبير جداً، إلا أن السيطرة الميدانية كانت للتتار، ثم تدفقت جموع جديدة من التتار على المدينة، وحلت الهزيمة الساحقة بالمسلمين، ودار القتل على أشده فيهم، وبدأ المسلمون في الهروب والاختفاء في السراديب والخنادق والديار، فقام التتار بعمل بشع إذ قاموا بهدم سد ضخم كان مبنياً على نهر جيحون، وكان يمنع الماء عن المدينة، وبذلك أطلقوا الماء الغزير على خوارزم، فأغرق المدينة بكاملها.. ودخل الماء في كل السراديب والخنادق والديار، وتهدمت ديار المدينة بفعل الطوفان الهائل، ولم يسلم من المدينة أحد البتة!! فمن نجا من القتل قتل تحت الهدم أو أغرق بالماء، وأصبحت المدينة العظيمة خراباً، وتركها التتار وقد اختفت من على وجه الأرض وأصبح مكانها ماء نهر جيحون، ومن مر على المدينة الضخمة بعد ذلك لا يستطيع أن يرى أثراً لحياة سابقة.. وهذا لم يسمع بمثله في قديم الزمان وحديثه، اللهم ما حدث مع قوم نوح، ونعوذ بالله من الخذلان بعد النصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله ..

وكانت هذه الأحداث الدامية أيضاً في عام 617هـ!!..

* التتار يتوجهون إلى وسط وجنوب أفغانستان *
==============================
بتدمير إقليمي خراسان وخوارزم يكون التتار قد سيطروا على المناطق الشمالية ومناطق الوسط من دولة خوارزم الكبرى، ووصلوا في تقدمهم إلى الغرب إلى قريب من نهاية هذه الدولة (على حدود العراق)، ولكنهم لم يقتربوا بعد من جنوب دولة خوارزم.. وجنوب دولة خوارزم كانت تحت سيطرة "جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه"، وهو ابن الزعيم الخوارزمي الكبير محمد بن خوارزم، والذي فر منذ شهور قليلة أمام التتار.. وهرب إلى جزيرة ببحر قزوين حيث مات هناك..

وجنوب دولة خوارزم كان يشمل وسط وجنوب أفغانستان وباكستان، وكان يفصل بينه وبين الهند نهر السند، وكان جلال الدين -زعيم الجنوب- يتخذ من مدينة "غزنة" مقراً له (مدينة غزنة في أفغانستان الآن، وتقع على بعد حوالي مائة وخمسين كم جنوب مدينة كابول، وهي مدينة حصينة تقع في وسط جبال باروبا ميزوس الأفغانية)..
ولما انتهى جنكيزخان من أمر الزعيم الرئيسي للبلاد "محمد بن خوارزم شاه" وأسقط دولته، بدأ يفكر في غزو وسط أفغانستان وجنوبها لقتال الابن "جلال الدين"، فوجه إلى "غزنة" جيشاً كثيفاً من التتار.. انظر خريطة الدولة الخوارزمية والغزو المغولي

* معركة غزنة *
==========
كان جلال الدين قد جاءته أخبار الغزو المغولي الرهيب لمناطق الشمال والوسط من الدولة الخوارزمية، وبلغه ما حدث لأبيه، وكيف مات في جزيرة ببحر قزوين، وأصبح هو الآن الزعيم الشرعي للبلاد، ومن ثم عظمت مسئوليته جدًا, فبدأ يعد العدة لقتال التتار، وجمع جيشاً كبيراً من بلاده، وانضم إليه أحد ملوك الأتراك المسلمين اسمه "سيف الدين بغراق", وكان شجاعاً مقداماً صاحب رأي ومكيدة في الحروب، وكان معه ثلاثون ألف مقاتل، ثم انضم إليه أيضاً ستون ألفاً من الجنود الخوارزمية الذين فروا من المدن المختلفة في وسط وشمال دولة خوارزم بعد سقوطها، كما انضم إليه أيضاً "ملك خان" أمير مدينة هراة بفرقة من جيشه، وذلك بعد أن أسقط جنكيزخان مدينته.. وبذلك بلغ جيش جلال الدين عدداً كبيراً، ثم خرج جلال الدين بجيشه إلى منطقة بجوار مدينة غزنة تدعى "بلق"، وهي منطقة وعرة وسط الجبال العظيمة.. وانتظر جيش التتار في هذا المكان الحصين، ثم جاء جيش التتار!..
دارت بين قوات جلال الدين المتحدة وقوات التتار معركة من أشرس المواقع في هذه المنطقة.. وقاتل المسلمون قتال المستميت.. فهذه أطراف المملكة الخوارزمية، ولو حدثت هزيمة فليس بعدها أملاك لها، وكان لحمية المسلمين وصعوبة الطبيعة الصخرية والجبلية للمنطقة، وكثرة أعداد المسلمين، وشجاعة الفرقة التركية بقيادة سيف الدين بغراق، والقيادة الميدانية لجلال الدين... كان لكل ذلك أثر واضح في ثبات المسلمين أمام جحافل التتار..
واستمرت الموقعة الرهيبة ثلاثة أيام..
ثم أنزل الله نصره على المسلمين.. وانهزم التتار للمرة الأولى في بلاد المسلمين!! وكثر فيهم القتل، وفر الباقون منهم إلى ملكهم جنكيزخان، والذي كان يتمركز في "الطالقان" في شمال شرق أفغانستان..
وارتفعت معنويات المسلمين جداً.. فقد وقر في قلوب الكثيرين قبل هذه الموقعة أن التتار لا يهزمون، ولكن ها هو اتحاد الجيوش الإسلامية في غزنة يؤتي ثماره.. لقد اتحدت في هذه الموقعة جيوش جلال الدين، مع بقايا جيوش أبيه محمد بن خوارزم شاه، مع الفرقة التركية بقيادة "سيف الدين بغراق", مع "ملك خان" أمير هراة.. واختار المسلمون مكاناً مناسباً وأخذوا بالأسباب المتاحة.. فكان النصر..
* معركة كابل *
==========
اطمأن جلال الدين إلى جيشه، فأرسل إلى جنكيزخان في الطالقان يدعوه إلى قتال جديد، وشعر جنكيزخان بالقلق لأول مرة، فجهز جيشاً أكبر، وأرسله مع أحد أبنائه لقتال المسلمين، وتجهز الجيش المسلم، والتقى الجيشان في مدينة "كابول" الأفغانية..
ومدينة كابول مدينة إسلامية حصينة تحاط من كل جهاتها تقريباً بالجبال؛ فشمالها جبال هندوكوش الشاهقة، وغربها جبال باروبا ميزوس، وجنوبها وشرقها جبال سليمان..
ودارت موقعة كابول الكبيرة.. وكان القتال عنيفاً جداً.. أشد ضراوة من موقعة غزنة.. وثبت المسلمون، وحققوا نصراً غالياً على التتار، بل وأنقذوا عشرات الآلاف من الأسرى المسلمين من يد التتار.
وفوق ارتفاع المعنويات، وقتل عدد كبير من جنود التتار، وإنقاذ الأسرى المسلمين، فقد أخذ المسلمون غنائم كثيرة نفيسة من جيش التتار، ولكن سبحان الله ، بدلاً من أن تكون هذه نعمة على جيش المسلمين، أصبحت هذه الغنائم نقمة شديدة وهلكة محققة!!..
قعن عمرو بن عوف قال: قال رسول الله :".. فَوَالله مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ. وَلَكِنِّى أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"[1].

* الاختلاف في جيش جلال الدين *
=====================
لقد كانت قلوب المسلمين في هذه الحقبة من الزمان مريضة بمرض الدنيا العضال، إلا ما رحم الله .. لقد كانت حروبهم حروبًا مادية قومية.. حروب مصالح وأهواء.. ولم تكن في سبيل الله .. لقد كان انتصارهم مرة وثانية لحب البقاء، والرغبة في الملك، والخوف من الأسر أو القتل.. فكانت لهم جولة أو جولتان.. لكن ظهرت خبايا النفوس عند كثرة الأموال والغنائم..
لقد وقع المسلمون في الفتنة!!..
اختلف المسلمون على تقسيم الغنيمة!!..
قام "سيف الدين بغراق" أمير الترك، وقام أمير آخر هو "ملك خان" أمير مدينة هراة.. قام كل منهما يطلب نصيبه في الغنائم.. فحدث الاختلاف.. وارتفعت الأصوات.. ثم بعد ذلك ارتفعت السيوف!!..
نعم.. ارتفعت السيوف ليتقاتل المسلمون على تقسيم الغنيمة.. وجيوش التتار ما زالت تملأ معظم مدن المسلمين!!..

وسقط من المسلمين قتلى على أيدي المسلمين.. وكان ممن سقط أخ لسيف الدين بغراق، فغضب سيف الدين بغراق وقرر الانسحاب من جيش جلال الدين ومعه الثلاثون ألف مقاتل الذين كانوا تحت قيادته!! وحدث ارتباك كبير في جيش المسلمين، وحاول جلال الدين أن يحل المشكلة، وأسرع إلى سيف الدين بغراق يرجوه أن يعود إلى صف المسلمين؛ فالمسلمون في حاجة إلى كل جندي وإلى كل طاقة وإلى كل رأي، فوق أن هذا الانسحاب سيؤثر على معنويات المجموعة الباقية؛ لأن الفرقة التركية كانت من أمهر فرق المسلمين.. ولكن سيف الدين بغراق أصر على الانسحاب، فاستعطفه جلال الدين بكل طريق، وسار بنفسه إليه وذكره بالجهاد، وخوفه من الله تعالى.. لكن سيف الدين بغراق لم يتذكر وانسحب فعلاً بجيشه!!

* المواجهة بين جنكيز خان وجلال الدين *
==========================
انكسر جيش المسلمين انكساراً هائلاً.. لقد انكسر مادياً، وكذلك انكسر معنوياً!!..
ولم يفلح المسلمون في استثمار النصر الغالي الذي حققوه في غزنة وكابول..
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ الله مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بني إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ"[2].
لم يدرك المسلمون في هذه الآونة حقيقة الدنيا، وأنها دار استخلاف واختبار وامتحان، وليست دار قرار وبقاء وخلود.. نسي المسلمون امتحان ربهم، ولم يستعدوا له..
نسي المسلمون التحذير النبوي الخطير.. "فاتقوا الدنيا".. فسقط المسلمون سقطة هائلة..
وبينما هم كذلك إذ جاء جنكيزخان بنفسه على رأس جيوشه ليرى هذا المسلم الذي انتصر عليه مرتين.. ودب الرعب والهلع في جيش المسلمين.. فقد قلت أعدادهم وتحطمت معنوياتهم.. ورأى جلال الدين أن جيشه قد ضعف جداً.. فماذا فعل؟!
لقد أخذ جيشه وبدأ يتجه جنوباً للهروب من جيش جنكيزخان، أو على الأقل لتجنب الحرب في هذه الظروف..
ولكن جنكيزخان كان مصراً على اللقاء فأسرع خلف جلال الدين!!..
وبدأ جلال الدين يفعل مثلما فعل أبوه من قبل..!! لقد بدأ ينتقل من مدينة إلى مدينة متوجهاً إلى الجنوب، حتى وصل إلى حدود باكستان الآن فاخترقها، ثم تعمق أكثر حتى اخترق كل باكستان ووصل إلى نهر السند، الذي يفصل في ذلك الوقت بين باكستان وبين الهند.. فأراد جلال الدين أن يعبر بجيشه نهر السند ليفر إلى الهند، مع أن علاقاته مع ملوك الهند المسلمين لم تكن على ما يرام.. ولكنه وجد ذلك أفضل من لقاء جنكيزخان !!..
وعند نهر السند فوجئ جلال الدين وجيشه بعدم وجود السفن لنقلهم عبر النهر الواسع إلى الناحية الأخرى، فطلبوا سفناً من مكان بعيد، وبينما هم ينتظرون السفن إذ طلع عليهم جيش جنكيزخان !!..
ولم يكن هناك بد من القتال، فنهر السند من خلفهم، وجنكيزخان من أمامهم، ودارت موقعة رهيبة بكل معاني الكلمة.. حتى إن المشاهدين لها قالوا: إن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال.. واستمر اللقاء الدامي ثلاثة أيام متصلة.. واستحر القتل في الفريقين، وكان ممن قتل في صفوف المسلمين الأمير ملك خان، والذي كان قد تصارع من قبل مع سيف الدين بغراق على الغنائم.. وها هو لم يظفر من الدنيا بشيء، بل ها هي الدنيا قد قتلته، ولم يتجاوز لحظة موته بدقيقة واحدة.. ولكن شتان بين من يموت وهو ناصر للمسلمين بكل طاقته، ومن يموت وقد تسبب بصراعه في فتنة أدت إلى هزيمةٍ مُرة..
وفي اليوم الرابع انفصلت الجيوش لكثرة القتل، وبدأ كل طرف يعيد حساباته، ويرتب أوراقه، ويضمد جراحه، ويعد عدته.. وبينما هم في هذه الهدنة المؤقتة جداً جاءت السفن إلى نهر السند، ولم يضيع جلال الدين الوقت في تفكير طويل، بل أخذ القرار السريع الحاسم وهو: "الهروب!!.." وقفز الزعيم المسلم إلى السفينة، ومعه خاصته ومقربوه، وعبروا نهر السند إلى بلاد الهند، وتركوا التتار على الناحية الغربية من نهر السند..

* احتلال أفغانستان *
=============
ولكن.. هل ترك جنود المسلمين التتار وحدهم في هذه الأرض؟
كلا!!.. إنما تركوهم مع بلاد المسلمين، ومدن المسلمين، وقرى المسلمين.. تركوهم مع المدنيين دون حماية عسكرية.. وجيوش التتار لا تفرق بين مدني وعسكري.. بالإضافة إلى الحقد الشديد في قلب جنكيزخان نتيجة كثرة القتلى في التتار في الأيام الأخيرة.. فانقلب جنكيزخان على بلاد المسلمين يصب عليها جام غضبه.. ويفعل بها ما اعتاد التتار أن يفعلوه وأكثر..
وكانت أشد المدن معاناة هي مدينة غزنة، والتي انتصر عندها المسلمون منذ أيام أو شهور عندما كانوا متحدين.. دخل جنكيزخان المدينة الكبيرة.. عاصمة جلال الدين بن خوارزم فقتل كل رجالها بلا استثناء، وسبى كل الحريم بلا استثناء، وأحرق كل الديار بلا استثناء!!.. وتركها ـ كما يقول ابن الأثير ـ خاوية على عروشها، كأن لم تغن بالأمس!!..
ويجدر بالذكر أن نشير إلى أنه في جملة الذين أمسك بهم جنكيزخان من أهل المدن كان أطفال جلال الدين ابن خوارزم.. وقد أمر جنكيزخان بذبحهم جميعاً.. وهكذا ذاق جلال الدين من نفس المرارة التي ذاقها الملايين من شعبه..
فعن أبي قلابة أن رسول الله قال: " فَكُنْ كَمَا شِئْتَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ "[3].
وبذلك حقق جنكيزخان حلماً غالياً ما كان يتوقع أن يكون بهذه السهولة، وهذا الحلم هو احتلال "أفغانستان"!!..
ولكن.. لماذا يكون احتلال أفغانستان بالتحديد حلماً لجنكيزخان أو لغيره من الغزاة؟! لماذا يكون احتلال أفغانستان بالذات خطوة مؤثرة جداً في طريق سقوط الأمة الإسلامية؟! ولماذا يجب أن يكون سقوط أفغانستان في يد محتل - أياً كان - نذير خطر شديد للأمة بأسرها؟!
** الواقع أن سقوط أفغانستان يحمل بين طياته كوارث عدة:

أولاً: الطبيعة الجبلية للدولة تجعل غزوها شبه مستحيل، وبذلك فهي تمثل حاجزاً طبيعياً قوياً في وجه الغزاة، وهذا الحاجز يخفف الوطأة على البلاد المجاورة لأفغانستان، فإن سقطت أفغانستان كان سقوط هذه البلاد المجاورة محتملاً جداً، وسيكون غزو أو مساومة باكستان وإيران ثم العراق بعد ذلك أسهل جداً..


ثانياً: الموقع الاستراتيجي الهائل لأفغانستان يعطيها أهمية قصوى، فهي في موقع متوسط تماماً في آسيا، والذي يحتلها سيملك رؤية باتساع 360 درجة على المنطقة بأسرها.. فهو على بعد خطوات من دول في غاية الأهمية.. إنه لا يراقب باكستان وإيران فقط، ولكنه يراقب أيضاً دولاً خطيرة مثل روسيا والهند، وفوق ذلك فهو قريب نسبياً من الصين.. وبذلك تصبح السيطرة على كامل آسيا –بعد احتلال أفغانستان– أمراً ممكناً..

ثالثاً: الطبيعة الجبلية لأفغانستان أكسبت شعبها صلابة وقوة قد لا تتوفر في غيرها من البلاد، فإن سقط هؤلاء فسقوط غيرهم سيكون أسهل..

رابعاً: يتمتع سكان هذا البلد بنزعة إسلامية عالية جداً، وبروح جهادية بارزة، وليس من السهل أن يقبلوا الاحتلال، وظهر ذلك واضحاً في انتصارهم مرتين على التتار بينما فشلت كل الجيوش الإسلامية في تحقيق مثل هذا النصر، ولا شك أن سقوط هؤلاء يُعد نجاحاً هائلاً للقوى المعادية للمسلمين..

خامساً: فوق كل ما سبق، فإن الأثر المعنوي السلبي على الأمة الإسلامية، والإيجابي على التتار، سوف يكون عاملاً شديد التأثير في الأحداث، فأنَّى لأمة محبطة أن تفكر في القيام، وأنى لأمة ذاقت طعم النصر الصعب أن تفرط في الانتصارات السهلة!!.. هذا عادة لا يكون!!..

وبذلك يكون التتار قد وصلوا من الصين إلى كازاخستان ثم أوزبكستان ثم التركمنستان ثم أفغانستان ثم إيران ثم أذربيجان ثم أرمينيا ثم جورجيا وقد اقتربوا جداً من العراق.

كل هذا في سنة واحدة!!.. في سنة 617هـ حتى إن ابن الأثير يعلق على هذا فيقول:

"وقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه، فهذه طائفة تخرج من حدود الصين، لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينيا، ويجاورون العراق من ناحية همذان، وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا - إذا بَعُدَ العهد - ويرى هذه الحادثة مسطورة فإنه سينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أنا سطّرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه، في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، فقد استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها".




* الغزو المغولي للشيشان وروسيا *
======================
* تدمير مراغة بأذربيجان *
انتهت سنة 617هـ بما حملته من مآسي ومصائب، ودخلت سنة 618هـ فعاد التتار إلى إقليم أذربيجان المسلم من جديد، ودخلوا مدينة "مراغة" المسلمة.. ومن عجيب الأمور أن امرأة كانت ترأس هذه المدينة، ولا أدري لماذا أعطى المسلمون زمامهم لامرأة، وخــاصةً في هذا التوقيت الحســاس؟؟ إلا إذا كانت البلاد قد
عدمت الرجال الذين يصلحون للقيادة.
حاصر التتار مراغة ونصبوا حولها المجانيق، وأخذوا يضربون المدينة من كل مكان.. فخرج أهلها للقتال، فإذا بالتتار يدفعون بالأسارى المسلمين الذين أتوا بهم من بلاد متعددة ليقاتلوا عنهم، والتتار يحتمون بهم، ومن تأخر من الأسارى عن القتال قُتل.. فبدأ الأسارى المسلمون يقاتلون إخوانهم المسلمين في مراغة طمعاً في قليل من الحياة.. وسبحان الله !.. إن كان الموت لا محالة آتٍ؛ فلماذا تقتل إخوانك قبل أن تُقتل؟! ولو انقلب الأسارى على التتار حمية لإخوانهم في مراغة، لكان في ذلك فرصة النجاة لبعض المسلمين.. ولكن ضاعت المفاهيم، وعميت الأبصار ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
دخل التتار مدينة مراغة المسلمة في 4 صفر سنة 618هـ، ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما صلح لهم وكل ما استطاعوا حمله، أما ما كانوا يعجزون عن حمله فكانوا يحرقونه كله.. ولقد كانوا يأتون بالحرير الثمين كأمثال التلال فيضرمون فيه النار!!..
ويذكر ابن الأثير أن المرأة من التتار كانت تدخل الدار فتقتل جماعة من أهلها!! وذكر أيضاً أنه قد سمع بنفسه من بعض أهل مراغة أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل مسلم، فما زال يقاتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بالسوء..!! ضربت الذلة على الناس، فلا يدفعون عن أنفسهم قليلاً ولا كثيراً، ونعوذ بالله من الخذلان!!"..
* التهديد بغزو شمال العراق *
==================
بدأ التتار يفكرون في غزو مدينة "أربيل" في شمال العراق، ودب الرعب في مدينة أربيل، وكذلك في مدينة الموصل في غرب أربيل، وفكر بعض أهلها في الجلاء عنها للهروب من طريق التتار، وخشي الخليفة العباسي الناصر لدين الله أن يعدل التتار عن مدينة أربيل لطبيعتها الجبلية, فيتجهون إلى بغداد بدلاً منها، فبدأ يفيق من السبات العميق الذي أصابه في السنوات السابقة، وبدأ يستنفر الناس لملاقاة التتار في أربيل إذا وصلوا إليها.. وأعلنت حالة الاستنفار العام في كل المدن العراقية, وبدأ جيش الخلافة العباسية في التجهز..

-- تُرى.. كم من الرجال استطاع الخليفة أن يجمع؟

لقد جمع الخليفة العباسي "الناصر لدين الله " ثمانمائة رجل فقط !!
ولا أدري كيف سينصر الخليفة دين الله -كما يوحي بذلك اسمه- بثمانمائة رجل؟!
أين الجيش القوي؟! وأين الحماية للخلافة؟! وأين التربية العسكرية؟! وأين الروح الجهادية؟!
لم يكن الناصر لدين الله خليفة، وإنما كان "صورة" خليفة.. أو "شبح" خليفة..

ولم يستطع قائد الجيش "مظفر الدين" طبعاً أن يلتقي بالتتار بهذا العدد الهزيل.. ولكن انسحب بالجيش، ومع ذلك - سبحان الله - فقد شعر التتار أن هذه خدعة، وأن هذه هي مقدمة العسكر، فليس من المعقول أن جيش الخلافة العباسية المرهوبة لا يزيد عن ثمانمائة جندي فقط!.. ولذلك قرروا تجنب المعركة وانسحبوا بجيوشهم..

* وقفة مع انسحاب جيش التتار *
====================
وانسحاب جيوش التتار يحتاج منا إلى وقفة وتحليل.. فقد كان الرعب يملأ التتار من إمكانيات الخلافة العباسية التي كانت ملء سمع وبصر الدنيا، وكانت تزهو على غيرها من الأمم بتاريخ طويل وأمجاد عظيمة، ولا شك أن دولة لقيطة مثل دولة التتار ليس لها على وجه الأرض إلا بضع سنوات ستحسب ألف حساب لدولة هائلة يمتد تاريخها إلى أكثر من خمسمائة سنة؛ ولذا فالتتار كانوا يقدرون إمكانيات العراق بأكثر من الحقيقة بكثير، ومن ثم فقد آثروا ألا يدخلوا مع الخلافة في صدام مباشر، واستبدلوا بذلك ما يُعرف "بحرب الاستنزاف"، وذلك عن طريق توجيه ضربات خاطفة موجعة للعراق، وعن طريق الحصار الطويل المستمر، وأيضاً عن طريق عقد الأحلاف والاتفاقيات مع الدول والإمارات المجاورة لتسهيل الحرب ضد العراق في الوقت المناسب..
لذلك فقد انسحب التتار بإرادتهم ليطول بذلك عمر العراق عدة سنوات أخرى..

غزو أقاليم إيران
اجتياح همذان وأردويل
=================
وهما من مدن إيران حالياً، وقد حاصر التتار همذان، ثم دار القتال بعد ذلك مع أهلها بعد أن انقطع عنهم الطعام، ووقعت مقتلة عظيمة في الطرفين، لكن في النهاية انتصر التتار، واجتاحوا البلد، وسفكوا دماء أهلها وأحرقوا ديارها، ثم تجاوزوها إلى أردويل فملكوها وقتلوا من فيها وخربوا وأحرقوا..

التتار على أبواب تبريز
==============
واتجه التتار إلى تبريز.. المدينة الإيرانية الكبيرة.. وكان التتار قد رضوا سابقاً بالمال والثياب والدواب من صاحبها المخمور "أوزبك بن البهلوان"، ولم يدخلوها لأنهم جاءوا إليها في الشتاء القارس.. أما الآن وقد تحسن الجو وصفت السماء، فلا مانع من خيانة العهود ونقض المواثيق..
ولكنهم -في طريقهم إلى تبريز- علموا بأمر قد جد على هذه البلدة.. لقد رحل عنها صاحبها المخمور أوزبك بن البهلوان، وتولى قيادة البلاد رجل جديد هو "شمس الدين الطغرائي"، وكان رجلاً مجاهداً يفقه دينه ودنياه، فقام رحمه الله يحمس الناس على الجهاد وعلى إعداد القوة.. وقوّى قلوبهم على الامتناع، وحذرهم عاقبة التخاذل والتواني.. وعلمهم ما عرفوه نظرياً ولم يطبقوه عملي في حياتهم على الإطلاق: علمهم أن الإنسان لا يموت قبل ميعاده أبداً .. وأن رزقه وأجله قد كتبا له قبل أن يولد، وأن المسلمين مهما تنازلوا للتتار فلن يتركوهم, إلا إذا احتمى المسلمون وراء سيوفهم ودروعهم.. أما بغير قوة فلن يُحمى حق على وجه الأرض..
تحركت الحمية في قلوب أهل تبريز، وقاموا مع قائدهم البار يحصنون بلدهم، ويصلحون الأسوار، ويوسعون في الخندق، ويجهزون السلاح، ويضعون المتاريس، ويرتبون الصفوف.. لقد تجهز القوم - وللمرة الأولى منذ زمن - للجهاد!!..
وسمع التتار بأمر المدينة، وبحالة العصيان المدني فيها، وبحالة النفير العام.. سمعوا بدعوة الجهاد، والتجهز للقتال... سمع التتار بكل ذلك، فماذا فعلوا؟
قد يعتقد بعض القراء أن التتار قد غضبوا وأرعدوا وأزبدوا، وغلت الدماء في عروقهم، وعلت أصواتهم، وجمعوا جيوشهم، وعزموا على استئصال المدينة المتهورة..
أبداً -إخواني في الله - إن كل ذلك لم يحدث!!..
لقد أخذ التتار قراراً عجيباً!!..
لقد قرروا عدم التعرض لتبريز، وعدم الدخول في قتال مع قوم قد رفعوا راية الجهاد في سبيل الله ..!! لقد ألقى الله الرعب في قلوب التتار -على كثرتهم- من أهل تبريز -على قلتهم- ..
لقد نُصر رسول الله بالرعب مسيرة شهر، وكذلك ينصر بالرعب كل من سار على طريقه..
لقد فعل الجهاد فعله المتوقع.. بل إن القوم لم يجاهدوا، ولكنهم فقط عقدوا النية الصادقة، وأعدوا الإعداد المستطاع، فتحقق الوعد الرباني -الذي لا خلف له- وهو وقوع الرهبة في قلوب أعداء الأمة.. وهذا درس لا يُنسى.
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
فكانت هذه صورة مشرقة في وسط هذا الركام المظلم..
ورحم الله شمس الدين الطغرائي الذي جدد الدين في هذه المدينة المسلمة.. تبريز..

* اجتياح بيلقان *
===========
وهي من مدن إيران حالياً، وللأسف فإنها لم تفعل مثل فعل تبريز، ودخل التتار البلدة في رمضان 618هـ، ووضعوا فيها السيف، فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة، حتى إنهم -كما يقول ابن الأثير- كانوا يشقون بطون الحبالى ويقتلون الأجنة، وكانوا يرتكبون الفاحشة مع النساء ثم يقتلونهن، ولما فرغوا من البشر في المدينة نهبوا وخربوا وأحرقوا كعادتهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..

* التتار على أبواب مدينة كنجة *
===================
وسار التتار إلى مدينة كنجة المسلمة، وفعل أهلها مثلما فعل أهل تبريز، وفعل التتار معهم مثلما فعلوا مع أهل تبريز..
لقد أعلن أهل كنجة الجهاد وأعدوا العدة المستطاعة، فما دخل تتري واحد مدينتهم، بل تركوها إلى غيرها..
وليس من قبيل المصادفة أن البلاد التي رفعت راية الجهاد وأعدت له هي البلاد التي لم يجرؤ التتار على غزوها.. ليس هذا من قبيل المصادفة أبداً.. إنها سنة من سنن الله .. ولو فعلت ذلك كل مدن المسلمين ما استطاع التتار ولا غيرهم أن يطئوا بأقدامهم النجسة أرض المسلمين.. لقد حافظ المسلمون على هذه البلاد سنوات وسنوات.. لا بكثرة الأعداد, ولا بالاتفاقيات والمعاهدات.. إنما حافظوا عليها بجهاد صادق، ودماء زكية، وقلوب طاهرة مخلصة..
وسنة الله لا خلف لها.. إنما الذين يخالفون هم العباد..
* غزو داغستان والشيشان *
==================
والشيشان وداغستان تقعان في شمال أذربيجان على ساحل بحر قزوين من ناحية البحر الغربية، وهما من البلاد المسلمة الواقعة تحت الاحتلال الروسي الآن، ونسأل الله لهما التحرير الكامل، وقد قام التتار كعادتهم بتدمير كل شيء في هذه البلاد، وقتل معظم من وجدوه في طريقهم، وكانت أشد المدن معاناة من التتار هي مدينة شماخي المسلمة (في داغستان الآن)..
اجتياح الجنوب الغربي من روسيا
استمر التتار في صعودهم في اتجاه الشمال، وبعد الانتهاء من الشيشان وصلوا إلى حوض نهر الفولجا الروسي، واستمروا في قتال أهل هذه المناطق، وكانوا جميعاً من النصارى، وأثخنوا فيهم القتل، وارتكبوا معهم من الفظائع ما كانوا يرتكبونه مع المسلمين..

وبذلك انتهت سنة 618هـ وقد وصل التتار إلى أرض الروس، وأصبحت كل البلاد ما بين شرق الصين وجنوب غرب روسيا ملكاً لهم..

** أحداث سنة 619هـ :-
===============
في هذه السنة استمرت العمليات التترية في منطقة أرض الروس، وأكد التتار سيطرتهم على المناطق الإسلامية الشاسعة ما بين الصين والعراق، فثبتوا أقدامهم في كل بقاع الدولة الخوارزمية، وهذا يشمل الآن أسماء الدول الآتية من الشرق إلى الغرب:
1- كازاخستان..
2- قيرغيزستان
3- طاجيكستان..
4- أوزبكستان..
5- تركمنستان..
6- باكستان.. (باستثناء المناطق الجنوبية فيها، والمعروفة بإقليم: كرمان).
7- أفغانستان..
8- معظم إيران (باستثناء الحدود الغربية لها مع العراق والتي يسكنها الإسماعيلية).
9- أذربيجان..
10- أرمينيا..
11- جورجيا..
12- الجنوب الغربي لروسيا.

Re: القصة الكاملة لخطط ومؤامرات وغزو التتار لبلاد المسلمين وانهاء الخلافة الإسلامية

مشاركة غير مقروءة بواسطة شيرين مدحت »

* الغزو المغولي لأذربيجان وأرمينيا وجورجيا *
============================
* أحداث سنة 620هـ :-
بينما كان جنكيزخان يبسط سطوته على الدولة الخوارزمية استمر الغزو المغولي التتري على منطقة روسيا.
ولي تعليق على أربع حوادث وقعت في هذه السنة، وهي توضح الحال التي كان عليها المسلمون في هذه الفترة، وتفسر كذلك لماذا امتلك التتار هذه البلاد الشاسعة بهذه السرعة الرهيبة, وتضع أيدينا على بعض الأمراض التي تسببت في تلك الكوارث الشنيعة.
* الحادثة الأولى :-
===========
توغل التتار في بلاد روسيا وحققوا انتصارات عدة، ولكنهم في نهاية المطاف التقوا بطائفة من الروس تدعي طائفة البلغار (وهي في روسيا وليست في بلغاريا), وحدثت بينهم موقعة عظيمة هُزم فيها التتار للمرة الأولى في هذه المناطق، وقتل منهم خلق كثير، وتوقف الغزو المغولي في أرض روسيا، بل وقلت أعدادهم للدرجة التي فقدوا فيها السيطرة على كل المناطق الواقعة في غرب بحر قزوين (روسيا وجورجيا وأرمينيا والشيشان وداغستان وأذربيجان وشمال إيران).. وكانت هذه فرصة للمسلمين لكي يعيدوا ترتيب صفوفهم، وتجهيز عدتهم ليقابلوا التتار وهم في حال الاضطراب بعد الهزيمة من البلغار..
كان هذا متوقعاً، ولكنه لم يحدث!!..
أما الذي حدث فهو أن أحد أمراء المسلمين في هذه المنطقة -وتحديداً في منطقة أرمينيا- قد جمع عدته وهجم على قبائل الكرج في جورجيا.. وهذا الأمير كان تحت قيادة الملك الأشرف موسى بن العادل، صاحب ديار الجزيرة (وهو من الأكراد وكان يحكم شمال العراق)..

والحدث عجيب؛ لأنه وإن كان بين الكرج والمسلمين حروب مستمرة إلا أنهم في شبه هدنة غير رسمية الآن، وليس من الحكمة فتح جبهات جديدة على المسلمين في وجود العدو الأكبر لهم وهو التتار، وبالذات أن الكرج أيضاً كانوا يكرهون التتار، ويعانون منهم كما يعاني المسلمون.. فكان المتوقع من المسلمين في ذلك الوقت إما أن يتحالفوا بحذر مع الكرج ضد التتار، أو على الأقل أن يحيّدوا صفهم في هذا الوقت لكي لا يستنزفوا قوة المسلمين في حروب جانبية، خاصة وأن الكرج يعرفون خبايا هذه المناطق، ولو استمالهم التتار في حربهم ضد المسلمين لكان هذا وبالاً على المسلمين..
لقد ابْتُلي المسلمون في هذه الآونة بما يمكن أن نسميه: (الحَوَل السياسي!!), وافتقدوا الرؤية الصحيحة، والحكمة العسكرية، والهدف الواحد، والاتحاد بين الصفوف، فكانت مثل هذه الأعمال غير المتوازنة وغير المنضبطة وغير المدروسة!!
دارت الحرب بين المسلمين والكرج، وفقد كل منهما عددا كبيراً من القتلى، كما فقدوا الثقة في إمكانية التحالف ضد التتار.. وهكذا لم يستغل المسلمون موازين القوى في هذا الوقت لصالحهم، وكان هذا من أسباب ضعفهم.. ثم سكنت الحرب, وأقيم الصلح من جديد، ولكن بعد فقد طاقة كبيرة جداً من الطرفين..

** الحادثة الثانية :-
============
نتيجة انهزام التتار في هذه المنطقة ظهر أحد أولاد "محمد بن خوارزم" في منطقة شمال إيران، وهو "غياث الدين بن محمد بن خوارزم شاه" وهو أخو "جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه" الهارب في الهند..

جمع غياث الدين الرجال، واستغل الفراغ النسبي الذي تركه التتار في هذه المنطقة فتملكها، وسيطر على مدن الري وأصبهان، ووصلت سيطرته إلى إقليم كرمان (في جنوب إيران)، وهي منطقة لم يكن التتار قد وصلوا إليها..
إذن أصبحت سيطرة غياث الدين بن خوارزم شاه على مناطق شمال وغرب وجنوب إيران، أما المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من إيران (وهي إقليم خراسان بكامله) فكانت تحت السيطرة التترية.. وبذلك يصبح "غياث الدين" بمثابة حائط صدٍّ بين التتار والخلافة العباسية..
وكان المتوقع من الناصر لدين الله الخليفة العباسي في ذلك الوقت أن يساعد غياث الدين في تثبيت سيطرته على هذه المناطق، وكان المتوقع منه أن يتناسى الخلافات القديمة بينه وبين مملكة خوارزم.. وذلك لأنهم الآن يواجهون عدواً مشتركاً ضخماً وهو التتار..
كان ذلك المتوقع منه.. إن لم يكن بسبب دوافع الدين والأخوة والنصرة للمسلمين، فليكن بسبب الأبعاد الاستراتيجية الهامة وراء تثبيت قدم غياث الدين في هذه المنطقة.. ذلك لأن غياث الدين هو الذي يقف مباشرة في مواجهة التتار.. ويُعتبر البوابة الشرقية للخلافة العباسية في بغداد.. وإن استطاع التتار أن يقهروا غياث الدين فستكون المحطة الثانية هي الخلافة العباسية..
لكن الخليفة العباسي الناصر لدين الله لم يكن يدرك كل هذه الأبعاد.. لقد كان يعاني هو الآخر من الحول السياسي.. لقد كان -كما وصفه المؤرخون- رجلاً ظالماً مستبداً، فرض المكوس والضرائب على كل شعبه؛ في كل أزمة اقتصادية يفرض ضريبة جديدة, ويعتمد في الخروج من الأزمة على قوت الشعب وكدِّه وكدحه..
كما اهتم بالحفلات والملذات والصيد واللعب.. وعم الفساد في زمانه، وارتفعت الأسعار، وقلت المواد والمؤن.. وكان رجلاً يفتقر إلى النظرة العميقة والفهم الثاقب للأحداث، فلم يكن أبداً على مستوى الأحداث الضخمة التي حدثت في زمانه..
ماذا فعل الخليفة الناصر لدين الله ؟.. إنه لم ينس خلافاته القديمة مع المملكة الخوارزمية.. فأراد أن يقوض أركان السلطان هناك؛ ناسيًا أنهم بينه وبين التتار.. وراسل خال غياث الدين وكان اسمه "إيغان طائسي"، وكان رجلاً كبيراً وصاحب رأي في الحرب يعمل أميراً في جيش غياث الدين، وكان غياث الدين لا يقطع أمراً دون مشورته.. فراسله الخليفة الناصر لدين الله ، ورغّبه في الانقلاب على غياث الدين، وعظم له الاستيلاء على الملك، وبذلك يضمن الخليفة ولاء إيغان طائسي له، ويبعد غياث الدين عن المنطقة.. ولم يهمه تلك الفتنة التي ستدور في الأرض المجاورة له، والتي تعتبر العمق الاستراتيجي الهام له..
وأعجبت الفكرة إيغان طائسي، وكانت تدور في رأسه من قبل ولكن لم تكن له طاقة، فلما راسله الخليفة ووعده بالمساعدة قويت نفسه على ذلك، فذهب إلى بعض العسكر والقواد فاستمالهم له، ولما قويت شوكته وكثُر أتباعه، أعلن العصيان والانقلاب على غياث الدين، وأخذ من معه، ومضى في البلاد يفسد ويقطع الطريق، وينهب ما أمكنه من القرى وغيرها.. والناس لا تدري من أين تأتي الهلكة؟! أتأتي من جنود التتار أم تأتي من جنود المسلمين؟!.. وانضم إلى إيغان طائسي جمع كبير من أهل الفساد والعنف!..
كل هذا والتتار على بُعد خطوات، والخليفة الناصر لدين الله - في غباء شديد- سعيد بالفتنة الدائرة على مقربة منه!.. ثم قرر إيغان طائسي أن يقاتل ابن أخته غياث الدين في معركة فاصلة!!..
والتقى الفريقان المسلمان، ودارت مجزرة بين المسلمين، وسقطت الأعداد الغفيرة من المسلمين قتلى بسيوف المسلمين.. وانهزم إيغان طائسي خال غياث الدين, وقُتل من فريقه عدد ضخم، وأسر الباقون، وفر هو ومن بقى معه مقبوحين إلى أذربيجان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
فعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ (فقد الأمل) أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ"[1].
وإن كنا نعجب من هذه الصراعات الداخلية في ذلك الزمن الذي يشهد أزمة حقيقية تمر بها الأمة، فإننا نشاهد الآن نفس الصراعات والخلافات بين المسلمين، وذلك مع الأزمات الطاحنة التي تمر بها الأمة، ومع ذلك فالقليل من المسلمين الذي يهتم بهذه الصراعات أو حتى يلحظها.. وإلا فكم من المسلمين يتابع الخلافات بين مصر والسودان على حلايب؟ أو بين ليبيا وتشاد على شريط أوزو؟ أو بين المغرب والجزائر على الصحراء الغربية؟ أو بين السنغال وموريتانيا على نهر السنغال؟ أو بين السعودية واليمن على إقليم عسير؟.. أو بين الإمارات وإيران على جزيرة أبي موسى؟ أو بين سوريا وتركيا حول لواء الإسكندرونة؟... أو غير هذه الاختلافات هنا وهناك.. وبالطبع كلنا يعلم مدى خسارة الأمة في حرب العراق وإيران، ثم في حرب العراق والكويت.. كل هذه الخلافات والأمة منكوبة بأزمات طاحنة في معظم مناطقها تقريباً.. ويكفي أن تتصفح الجرائد اليومية عشوائياً في أي يوم لتسمع عن الكوارث في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والسودان والجزائر ونيجيريا والصومال وغيرها وغيرها.. وكما يقرأ الكثير منا هذه الأخبار بدم بارد، وبلا اكتراث أو ألم، فكذلك كان المسلمون أيام التتار يتلقون أخبار الصراعات الداخلية والخارجية بدم بارد، وبلا اكتراث أو ألم!!.. وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد.. وهذه - والله - كارثة مروعة.. كارثة أن يعيش المسلم لنفسه فقط! كارثة ألا يهتم إلا بحياته وحياة أسرته القريبة فقط! كارثة ألا يتألم لحال مسلم سُفك دمه، أو هُدمت داره، أو جُرفت أرضه، أو اغتصبت زوجته.. كارثة بكل المقاييس.. بمقاييس الإسلام، وبمقاييس الأخوة، وحتى بمقاييس الإنسانية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله !!..

** الحادثة الثالثة :-
============
هذه الحادثة ذكرها ابن الأثير في الكامل في التاريخ وقدم لها بعبارة: "حادثة غريبة لم يوجد مثلها!!"..
والحادثة فعلاً غريبة، ومأسوية إلى أبعد درجة..
والحادثة تذكر أن مملكة الكُرج النصرانية بعد أن أتمت صلحها مع المسلمين، وصل إلى قمة الحكم فيها امرأة.. فطلب منها الوزراء والأمراء وكبار رجال الدولة أن تتزوج رجلاً يدير عنها شئون البلاد، ويكون في الصورة أمام الأعداء وفي المفاوضات وغير ذلك.. فأرادت أن تتزوج من بيت مُلك وشرف.. ولكنها لم تر في مملكة الكرج من يصلح لهذا الزواج، وسمع بهذا أحد ملوك المسلمين وهو "مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان" وهو من ملوك السلاجقة، وكان يحكم منطقة الأناضول (تركيا الآن)، وكان له ولد كبير، فأرسل إلى الملكة يطلبها للزواج من ابنه، فرفضت الملكة وقالت: لا يمكن أن يملك أمرنا مسلم..
فماذا فعل الملك مغيث الدين بن قلج أرسلان؟
لقد قال لهم: إن ابني يتنصر ويتزوجها!!..
فوافقوا على ذلك، وبالفعل تنصر الولد، وتزوج من ملكة الكرج، وانتقل إلى مملكتهم ليكون حاكماً عليهم، وبقي على نصرانيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله !!..
لقد وصل المسلمون في هذه الآونة إلى درجة من التردي يستحيل معها النصر، فكيف تأتي فكرة التنصر في ذهن الملك وابنه أصلاً، فضلاً عن تطبيقها، ولو كان سيحكم الأرض كلها بعد التنصر؟!! ثم أيأتي ذلك من ملك عظيم يملك الأناضول؟! لو أتى ذلك من ضعيف مستعبد لقلنا: لعله استُكره على ذلك، أما أن يأتي العرض من الملوك، وهم الذين يُطلبون، فهذا ما لا يتخيله عقل!!..
ولا أدري من الذي أطلق على الملك لقب "مغيث الدين"؟ ولا أدري أي إغاثة قدمها للدين؟ ولا أدري أيضاً أي دين يغيثه؟ أهو يغيث الدين الإسلامي أم يغيث النصرانية؟!
{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
ولاستكمال الصورة يجدر بنا أن نذكر مصيره.. لنرى كيف يكون حال من باع دينه بدنياه..

لقد تنصر الأمير المسلم وتزوج الملكة الكرجية، ومرت الأيام، ثم علم الأمير الزوج أن زوجته الملكة تهوى مملوكاً لها، وكان يسمع عنها القبائح الشنيعة ولا يتكلم، فهو وحيد في مملكة واسعة، ثم إنه دخل عليها يوماً فرآها مع مملوكها في فراشه، فأنكر ذلك، وأراد أن يمنعها من استمرار العلاقة، فقالت له الملكة بكل جبروت: "إما أن ترضى بهذا وإلا فلا تبقى"..، فقال: أنا لا أرضى بهذا، فنقلته إلى بلد آخر، ووكلت به من يمنعه من الحركة، وحجرت عليه، ثم تزوجت غيره!!..
نعوذ بالله من الخذلان، ونسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاه..
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله :"بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا"[2].
** الحادثة الرابعة :-
============
حدث في عام 620هـ أمر قد يعتقد البعض أنه مصادفة، وأن توقيته غريب؛ فالمصائب كانت كثيرة على الأمة في هذه السنين، والحالة الاقتصادية متردية، وكذلك الحالة السياسية والعسكرية والأخلاقية.. وفوق كل المصائب التي ذكرناها فقد هجم الجراد بكميات هائلة على أكثر أقاليم المسلمين، وأهلك الكثير من الغلات والخضر بالعراق والجزيرة وديار بكر والشام وفارس وغيرها..
أكان هذا على سبيل المصادفة؟!
أبداً والله .. إنه لفي كتاب الله عز وجل!!..
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
إذا ترسخت التقوى في الأمة فتحت عليها البركات من السماء والأرض..
وإذا رفعت التقوى -كما رأينا من حال المسلمين في تلك الحقبة من الزمان- رأينا الأزمات والشدائد والمصائب..
بل إن الله ذكر الجراد بالذات كوسيلة من وسائل إثبات قدرته على من لم يتبع نهجه وشرعه.. قال الله عن قوم فرعون:
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف: 133].
وسبحان الله .. كلنا رأى الجراد الذي هجم على العالم الإسلامي في أوائل القرن الحادي والعشرين..
وأنا أرى أن هذا ليس مصادفة، ولكنه لفت نظر للمسلمين.. وتذكير لهم بالتاريخ.. ودعوة لهم للعودة إلى الله .. وإلا فرحلة الجراد القادم لن تكون رحلة عابرة.. بل ستكون إقامة واستيطانًا!
* غزو أذربيجان *
============
اتجه التتار إلى غرب بحر قزوين حيث إقليم أذربيجان المسلم..
مر التتار في طريقهم على مدينة تبريز (كانت مدينة أذربيجانية في ذلك الوقت بينما هي الآن من مدن شمال إيران)، فقرر زعيم أذربيجان "أوزبك بن البهلوان" - وكان يستقر في مدينة تبريز - أن يصالح التتار على الأموال والثياب والدواب، ولم يفكر مطلقاً في حربهم؛ لأنه كان لا يفيق من شرب الخمر ليلاً أو نهاراً!! ورضي التتار منه بذلك، ولم يدخلوا تبريز لأن الشتاء القارس كان قد حل، وتبريز في منطقة باردة جداً، فاتجه التتار إلى الساحل الغربي لبحر قزوين، وبدءوا في اجتياح الناحية الشرقية لأذربيجان متجهين ناحية الشمال..
* غزو أرمينيا وجورجيا *
================
هذان الإقليمان يقعان في غرب وشمال أذربيجان، وقد اتجهوا إليهما قبل الانتهاء من مدن أذربيجان؛ لأنهم سمعوا بتجمع قبائل "الكرج" لهم، وقبائل الكرج هي قبائل وثنية ونصرانية تقطن في منطقة جورجيا الروسية، وكان بينهم وبين المسلمين قتال دائم، وقد علموا أن الخطر يقترب منهم فتجمعوا في مدينة تفليس (في جورجيا الآن) وحدث هناك قتال طويل بينهم وبين التتار انتهى بانتصار التتار وامتلاك أرمينيا وجورجيا، وقُتل من الكرج ما لا يحصى في هذه الموقعة..
* ظهور حركة جلال الدين الخوارزمي *
========================
* أحداث سنة 621هـ *
في سنة 621هـ حاول غياث الدين بن محمد بن خوارزم شاه أن يثبت ملكه في منطقة فارس (جنوب وغرب إيران) ولكن حدثت فتنة بينه وبين أحد الأمراء في هذه المنطقة يدعى "سعد الدين بن دكلا"، ودار بينهما قتال طويل استغرق هذا العام حتى رضي الطرفان أن تقسم عليهما البلاد! ولا حول ولا قوة إلا بالله !..
وبينما كان غياث الدين مشغولاً في جنوب إيران بالقتال مع سعد الدين هجم التتار بفرقة تترية صغيرة لا تتجاوز ثلاثة آلاف فارس على مدينة "الري"، ووضعوا فيهم السيف، وقتلوا كيف شاءوا، ونهبوا البلد وخربوه، ثم ساروا إلى مدينة "ساوة" ففعلوا بها كذلك، ثم اتجهوا إلى مدينة "قم" (جنوب طهران الآن) وإلى مدينة "قاشان" فدمروا المدينتين، وقتلوا أهلهما وخربوا ديارهما، ثم قصدوا "همذان" فأبادوا أهلها قتلاً وأسراً ونهباً، وخربوا البلد كما خربوا غيره، ثم عادوا بعد ذلك سالمين إلى جنكيزخان!!..
ثلاثة آلاف تتري فقط فعلوا ما ذكرناه منذ قليل!!..
لقد كثر الله التتار في عيون المسلمين، وقلل المسلمين في عيون التتار.. وعظمت هيبة التتار وضاعت هيبة المسلمين..
لماذا؟! لأن المسلمين قد انشغلوا بأنفسهم، وما عادوا يدركون مَن العدو ومَن الصّديق، وبينما كان ينبغي للأزمات أن تجمع الصف المسلم إذا بها تفرقه، وما ذلك إلا لقلة الإيمان في القلوب، ولعظم الدنيا في العيون، ولسوء التربية أو انعدامها في فترات طويلة متراكمة..
وكنتيجة طبيعية جداً لهذه الأدواء الأخلاقية والأمراض القلبية حدث ما ذكره ابن الأثير في معرض كلامه عن أحداث عام 621 هجرية.. قال ابن الأثير:
"وفي هذه السنة قلت الأمطار في البلاد، ثم إنها كانت (أي الأمطار) تجيء في الأوقات المتفرقة مجيئاً قريباً لا يحصل منه الري للزرع، فجاءت الغلات قليلة، ثم خرج عليها الجراد، ولم يكن في الأرض من النبات ما يشتغل به عنها، وكان (أي الجراد) كثيراً عن الحد، فغلت الأسعار في العراق والموصل وسائر ديار الجزيرة، وديار بكر وغيرها، وقلت الأقوات"..
ما حدث في هذه الفترة من مصائب عن طريق الجراد والسنين ونقص الثمرات هو أمر طبيعي جداً، وهو أمر موافق للسنن الإلهية.. وليس من قبيل المصادفة..
وإذا مر على المسلمين زمان شعروا فيه أن الأسعار قد ارتفعت، وأن الغلات قد قلت، وأن الاقتصاد قد تأثر، وأن الحياة قد صعبت، فليراجعوا أنفسهم، وليقفوا مع أنفسهم وقفة للمحاسبة، وليعرضوا أنفسهم على كتاب الله ..
وحتماً - إن كانوا صادقين - سيجدون المرض، وسيعرفون العلاج..
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

* أحداث سنة 622هـ *
==============
في هاتين السنتين خفت القبضة التترية على غرب الدولة الخوارزمية (غرب وشمال إيران) واكتفوا ببعض الحملات المتباعدة، واهتموا بتوطيد ملكهم وتثبيت أقدامهم في شرق الدولة الخوارزمية في مناطق نهري سيحون وجيحون، وفي شمال أفغانستان وشرق إيران..
ولكن حدث أمر جديد في هاتين السنتين، إذ ظهر على مسرح الأحداث فجأة الأمير جلال الدين بن محمد بن خوارزم، والذي كان قد فرّ قبل ذلك إلى الهند منذ خمس سنوات (في سنة 617هـ)، وذلك أنه لم يستطع إكمال حياته في الهند، فقد كانت العلاقات أصلاً سيئة مع ملوك الهند، ثم إنه وجد أن التتار قد تركوا منطقة فارس نسبياً، وأن جنكيزخان قد عاد إلى بلاده لمعالجة بعض الأمور هناك وترك زعيماً غيره على جيوش التتار، وأن أخاه غياث الدين قد سيطر على معظم أجزاء فارس بعد أن تقاتل مع سعد الدين بن دكلا، واتفقا في النهاية على تقسيم فارس بينهما، وكان النصيب الأكبر لغياث الدين، وتم ذلك في سنة621هـ كما أشرنا من قبل..
وجد جلال الدين أن الظروف الآن مواتية للعودة إلى مملكة خوازرم للبحث عن الملك الضائع، ولكنه للأسف لم يدقق النظرة، ولم يشخص المرض الذي أصاب الأمة الإسلامية في ذلك الوقت.. ولم يدرك أنه الفرقة والتشتت والاستهانة بدماء المخالفين من المسلمين كانت من الأسباب الرئيسية لهذه الحالة المخزية التي وصلت إليها أمة الإسلام..
لم يدرك جلال الدين هذه الأمور، ومن ثم فإنه بدلاً من أن يبذل مجهوداً لتجميع الأطراف المتناحرة والأقاليم المتصارعة، دخل إلى مملكة خوارزم وهو يجهز نفسه ليكون طرفاً جديداً في الصراع الإسلامي - الإسلامي!!..
ماذا فعل جلال الدين؟!
لقد عبر نهر السند ودخل إقليم كرمان (جنوب باكستان) ثم تجاوزه إلى جنوب فارس (جنوب إيران) ثم بدأ يجمع حوله الأنصار له، وذهب إلى "سعد الدين بن دكلا" وتحالف معه ضد أخيه غياث الدين!!!!..
وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من جنوبه إلى الشمال محارباً أخاه غياث الدين، حتى وصل إلى غرب إيران، وأصبح قريباً من الخلافة العباسية، وكانت العلاقات القديمة بين مملكة خوارزم والخلافة العباسية متوترة جداً، ووجد جلال الدين في نفسه قوة، ووجد في الخلافة ضعفاً، فأعلن الحرب على الخلافة العباسية.. (هذا وجيوش التتار قابعة في شرق إيران!!!) ولا عجب؛ فقد كان جل الزعماء في تلك الآونة مصابين بالحول السياسي الذي أشرنا إليه من قبل، ودخل جلال الدين بجيشه إلى البصرة، وحاصرها لمدة شهرين، ثم تركها واتجه شمالاً ليمر قريباً من بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه؛ فحصن المدينة وجهز الجيوش لدفع جلال الدين، ولكن لم يكتف بذلك بل ارتكب فعلاً شنيعاً مقززاً، إذ إنه أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين!!!!
سبحان الله !!!..
أيأتي بالتتار وهو يعلم تاريخهم وحروبهم مع المسلمين ليحاربوا جلال الدين؟! حتى لو كان الظلم كل الظلم في جانب جلال الدين، والحق كل الحق في جانب الخليفة.. أيأتي بالتتار لنجدته؟! أما علم أن التتار إذا قضوا على جلال الدين فإن الخطوة التالية مباشرة هي القضاء على الخلافة العباسية؟!
ماذا أردت يا خليفة المسلمين؟!
أردت أن تطيل فترة ملكك أعواماً قليلة؟!
أردت أن تموت عبداً للتتار بدلاً من أن تكون عبداً لجلال الدين؟!
ليس هذا -بالطبع- دفاعاً عن جلال الدين.. بل نلومه أشد اللوم على تفريق طاقة المسلمين وجعل بأسهم بينهم، وما أشبهه بصدام حسين!! فكما ترك جلال الدين نيران التتار تبتلع ديار المسلمين، وانصرف لحرب الدولة العباسية.. كذلك فعل صدّام يوم كانت أطماع الغرب والشرق تحدق بالأمة في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير وأفغانستان... فأعرض عن كل ذلك وغزا الكويت!!!
وبرغم كل هذا التدني في الأخلاق وفي السياسة.. إلا أن الحل لا يكون أبدًا أن نأتي بقوة كافرة مهولة مروعة كالأمريكان لنزرعهم داخل بلاد المسلمين تحل لهم مشاكلهم، وتعالج لهم أمراضهم..
لقد كان الخليفة العباسي الناصر لدين الله كالمستجير من الرمضاء بالنار... كان كمن بغته لص صغير في بيته، فأسرع بالاستنجاد بأكبر لصوص المنطقة، فجاء اللص الكبير وأزاح اللص الصغير، ثم سرق هو البيت، بل ولم يكتف بذلك بل سرق البيوت المجاورة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!..
ومع استعانة الخليفة بالتتار، إلا أن التتار كانوا مشغولين ببسط سيطرتهم في المناطق الشاسعة التي احتلوها, فلم يحدث بينهم وبين جلال الدين قتال إلا في أواخر سنة 622هـ واستثمر جلال الدين هذه الفترة في بسط سيطرته على المناطق المحيطة ببغداد، ثم شمال العراق ثم منطقة شمال فارس، وبدأ يدخل في أذربيجان وما حولها من أقاليم إسلامية.
وكانت حروبه هو والخوارزمية الذين معه حروبًا شرسة مفسدة، مع أن البلاد المغنومة كلها بلاد إسلامية..! فكان يفعل بهم الأفاعيل من قتل وسبي ونهب وتخريب.. وكأنه تعلم من حروبه مع التتار كيف يقسو قلبه بدلاً من أن يتعلم كيف يرحم الذين عُذبوا منذ شهور وسنوات على أيدي التتار..
ثم بسط جلال الدين سيطرته على مملكة الكرج النصرانية بعد أن أوقع بهم هزيمة فادحة، واصطلح مع أخيه غياث الدين صلحاً مؤقتاً، وأدخله في جيشه، ولكن كان كل واحد منهما على حذر من الآخر..
وبذلك بلغ سلطان جلال الدين من جنوب فارس إلى الشمال الغربي لبحر قزوين، وهي وإن كانت منطقة كبيرة إلا أنها مليئة بالقلاقل والاضطرابات، بالإضافة إلى العداءات التي أورثها جلال الدين قلوب كل الأمراء في الأقاليم المحيطة بسلطانه بما فيهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله .. وسياسة العداوات والمكائد والاضطرابات هي السياسة التي ورثها جلال الدين عن أبيه محمد بن خوارزم وتحدثنا عنها من قبل.. ولم تأت إلا بالويلات على الأمة.. وليت المسلمون يفقهون..
وفي آخر سنة 622هـ توفى الخليفة الناصر لدين الله ، بعد أن حكم البلاد سبعة وأربعين عاماً متتالية، وكان قبيح السيرة في رعيته، فقد خرب العراق، وظلم أهله، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وطفف لهم في المكاييل، وفرض عليهم الرسوم الجائرة، والأحكام الظالمة.. وفوق كل ذلك ارتكب الذنب العظيم الذي تصغر بجواره كل ذنوبه وهو مراسلة التتار، ومحاولة التعاون معهم ضد المسلمين..

* أحداث سنتي 623 و624هـ *
===================
تولى الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله الخلافة العباسية، وكان على النقيض من أبيه تماماً؛ فقد كان رجلاً صالحاً تقياً أظهر من العدل والإحسان ما لم يُسبق إلا عند القليل، لدرجة أن ابن الأثير قال: "إنه لو قيل: إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً"، فرفع الضرائب الباهظة، وأعاد للناس حقوقهم، وأخرج المظلومين من السجون، وتصدق على الفقراء، حتى قيل في حقه: إنه كان غريباً في هذا الزمان الفاسد"..
ولقد قال فيه ابن الأثير- وكان معاصراً له- كلمة عجيبة، لقد قال: "إني أخاف أن تقصر مدة خلافته؛ لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته!!".. إلى هذا الحد كان المجتمع فاسدًا؟؟!

وسبحان الله .. لقد صدق حدس ابن الأثير، وتوفي الخليفة الظاهر بأمر الله سريعاً! ولم يحكم المسلمين إلا تسعة شهور وبضعة أيام فقط، ومع ذلك فكما يذكر الرواة: رخصت الأسعار جداً في فترة حكمه, وتحسن الاقتصاد في العراق.. وهي إشارات لا تخفى على عاقل.. والحمد لله الذي وضع في الأرض سنناً لا تتبدل ولا تتغير... فهل من مدّكر؟!!
وتولى الحكم بعد الظاهر بأمر الله المستنصر بالله , والذي ظل في كرسي الحكم حتى سنة 640 هـ أي حوالي: سبعة عشر عامًا.
وفي هذه الأثناء كان جلال الدين يستمر في حروبه في هذه المنطقة ليس مع التتار, ولكن مع المسلمين!! واستولى على بعض المدن والأقاليم، وكان من أبشع ما فعل هو حصاره لأهل "خلاط" أو "أخلاط" وهي مدينة مسلمة (في شرق تركيا الآن)؛ فقد قتل منهم خلقاً كثيراً، وامتدت أيدي الجنود الخوارزميين إلى كل شيء في البلد بالسلب والنهب حتى سبوا الحريم المسلمات!!!..
والحق أني لا أجد تفسيراً منطقياً لهذا التردي في الأخلاق، والتردي في الفهم، والتردي في السياسة، والتردي في الحكمة... ولولا أن هذا مسجل في أكثر من مرجع ما قبله عقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!..
ثم حدث أمر هام جداً ومحوريٌّ في سنة 624هـ وهو وفاة القائد التتري المجرم السفاح جنكيزخان، عن عمر يناهز اثنتين وسبعين سنة ملأها بالقتل والذبح وسفك الدماء والسلب والنهب، وبنى خلال فترة حكمه مملكة واسعة من كوريا في الشرق إلى فارس في الغرب.. بُنيت هذه المملكة على جماجم البشر، وعلى أشلائهم ودمائهم.. (ومعظمهم من المسلمين!) ولكن اللوم كل اللوم على من وصل إلى حالة من الضعف مكنت مثل هذا الفاسد من أن يفعل في بلاد المسلمين ما يشاء..
وبموت جنكيزخان هدأت الأمور نسبياً في هذه المنطقة، واحتفظ التتار بما ملكوه من بلاد المسلمين إلى وسط إيران تقريباً، بينما كان جلال الدين يبسط سيطرته على المناطق الغربية من إيران والمناطق الغربية من بحر قزوين.. وكأن كل طرف قد رضي بما يملك، وآثر الاحتفاظ بما يعتقد أنه حق له..


* الفترة من 624 إلى 627هـ *
=============================
هذه هي فترة الهدوء النسبي الذي أعقب وفاة جنكيزخان..
أين كان المسلمون في هذه الفترة؟!
لقد كانوا على عهدهم من الخلاف والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق.. لم يستغل المسلمون مصيبة التتار في زعيمهم الكبير جنكيزخان ليجمعوا صفهم ويحرروا بلادهم، بل شغلوا أنفسهم بحرب بعضهم لبعض، وبظلم بعضهم لبعض...
فقد تجددت الخلافات بين جلال الدين وأخيه غياث الدين وتفاقمت، حتى تعاون غياث الدين مع أعداء جلال الدين في حروبه..
ليس هذا فقط, بل كانت المنطقة بأسرها تموج بالاضطرابات والفتن، ليس في منطقة العراق وفارس فقط، بل في كل ديار المسلمين؛ فالحروب بين أمراء المسلمين في الشام ومصر كانت مستمرة، ولم تتحد كلمتهم أبداً، مع أن معظمهم من نفس العائلة الأيوبية، بل وأحياناً من الإخوة الأشقاء، ونتج عن ذلك أمر مريع في سنة 626 هجرية, وهو تسليم بيت المقدس (الذي حرره صلاح الدين الأيوبي قبل ذلك) إلى الصليبيين صلحاً!!!.. أي أن المسلمين في الشام اتفقوا على إعطاء بيت المقدس للصليبيين في مقابل أن يترك الصليبيون بعض الإمارات في الشام للمسلمين!!..

ثم إن جلال الدين استمر في حروبه البشعة في المنطقة، وكان مما فعل أن حاصر مدينة "خلاط" مرة ثانية بعد أن تمردت عليه، وأطال عليها الحصار حتى اضطر أهل البلد إلى أكل لحوم الخيل والحمير، ثم أكلوا الكلاب والقطط.. بل والفئران!!.. ثم سقطت المدينة في يد جلال الدين، فخربها وأكثر فيها القتل وسبي الحريم، واسترق الأولاد ثم باع الجميع!!.. وكما يقول ابن الأثير: "إن هذا ما لم يسمع بمثله، لا جرم أن الله لن يمهله!!"..

وعند رؤية مثل هذه الأحداث في كل بلاد المسلمين، ندرك لماذا فعل التتار ذلك بهذه البلاد مع ضخامتها وأعدادها وثرواتها.. ولا جرم أن هذه سنة مطردة في الكون.. فإنه من كانت هذه حاله فلابد أن يُسلط عليه طواغيت الأرض؛ فالله لا ينصر إلا من ينصره..

{إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].


* غزو المغول لأوروبا الشرقية *
====================================
* الغزو المغولي التتري الثاني *
====================
أتت سنة 628هـ تحمل هجمة مغولية تترية بشعة جديدة على الأمة الإسلامية.. وقد تضافرت عوامل شتى جعلت هذا الاجتياح الجديد على نفس مستوى الاجتياح الأول الذي حدث سنة 617هـ إلى سنة 620هـ، أو لعله أبشع وأسرع...
من هذه العوامل:
1- استقرار ملك التتار في منغوليا بعد وفاة جنكيزخان؛ فقد تولى قيادة التتار الزعيم الجديد "أوكيتاي"، وأخذ ينظم أمور مملكته في معقلها بمنغوليا والصين، وذلك سنة 624 إلى سنة 627هـ.
وبعد أن تم له ذلك بدأ يفكر من جديد في اجتياح العالم الإسلامي، واستكمال الحروب بعد ذلك في منطقة روسيا -التي هُزمت فيها قبل ذلك الجيوش التترية- ومحاولة استكمال الفتوح في داخل أوروبا.. ويبدو أن اجتياح الخلافة العباسية ذاتها وإسقاط بغداد لم يكن من أهداف هذه الحملة؛ لأنها تجاوزتها إلى أوروبا دون الوقوف أمامها كثيرًا، وذلك إما لشدة حصانتها وكثافة سكانها، وإما لتجنب إثارة كل المسلمين في العراق والشام ومصر إذا أسقطت الخلافة العباسية، والتي كانت تمثل رمزًا هامًا للمسلمين على ضعفها.. فأراد التتار أن يجعلوها الخطوة الأخيرة في فتوحاتهم.. وهذا هو عين الذكاء.
كلف الخاقان الكبير" أوكيتاي" أحد أبرز قادته بالقيام بمهمة الاجتياح التتري الثاني، وهو القائد "شورماجان" والذي جمع جيشًا هائلًا من التتر وتقدم صوب العالم الإسلامي من جديد.


2- شهد عام 628 هـ استمرار حالة الفرقة البشعة التي كانت في الأمة الإسلامية، واهتمام كل زعيم بحدود مملكته وإن صغرت، حتى إن بعض الممالك الإسلامية لم تكن إلا مدينة واحدة وما حولها من القرى، ولم يكتف الزعماء المسلمون بالفرقة بل كانوا يتصارعون فيما بينهم، ويكيد بعضهم لبعض، ولم يكن أحدهم يأمن أخاه مطلقًا.. ولم تكن فكرة الوحدة مطروحة أصلًا.




3- موت جلال الدين الخوارزمي:
حملت هذه السنة -أيضًا- النهاية المأساوية الفاضحة لجلال الدين بن خوارزم شاه!..
فإنه لما جاءت جيوش التتار بقيادة شورماجان اجتاحت البلاد الإسلامية اجتياحًا بشعًا، وقد وصل إلى علمها أن جلال الدين قد ضعف جدًا في هذه السنة لحدوث هزيمتين له من الأشرف بن العادل حاكم ديار الجزيرة في شمال العراق وجنوب تركيا، وكانت طائفة الإسماعيلية -وهي من طوائف الشيعة في غرب إقليم فارس- قد راسلت التتار وأخبرتهم بضعف جلال الدين؛ وذلك لأنه كانت بينهم وبين جلال الدين حروب، فأرادوا الانتقام منه بإخبار التتار بوقت ضعفه...
وجاءت جحافل التتار ودمرت في طريقها كل ما يمكن تدميره، وأكلت الأخضر واليابس، وكان لها هدف رئيسي هو الإمساك بجلال الدين بن خوارزم.. والتقى بهم جلال الدين في موقعة انهزم فيها شر هزيمة، وأسرع بالفرار من أمام التتار وقد تمزق جيشه، وإذا به يلقى نفس المصير الذي لقيه أبوه منذ أحد عشر عامًا.. فهو يفر من قطر إلى قطر، ومن مدينة إلى مدينة، والتتار خلفه يقتلون ويسبون وينهبون، حتى وصل جلال الدين إلى أرض الجزيرة بشمال العراق حيث تفرق عنه جنوده أجمعون، وبقى وحيدًا شريدًا طريدًا كما حدث مع أبيه تمامًا, وأخذ يتنقل بمفرده بين القرى فرارًا من التتار، واختفى ذكره من البلاد شهورًا متصلة؛ فلا يعرف أحد إن كان قُتل أو اختفى أو هرب إلى بلد آخر.. ثم وصل إلى إحدى القرى حيث استقبله فلاح من الأكراد وسأله من أنت؟
وقد تعجب الفلاح من كثرة الجواهر والذهب الذي عليه، فقال له جلال الدين: أنا ملك الخوارزمية..! يقول ذلك ليلقي الرهبة في قلب الفلاح، ولكن- سبحان الله - كان ذلك الإعلان ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا؛ فقد كانت جنود الخوارزمية قتلت أخًا لهذا الفلاح!!
فلما علم الفلاح بأن هذا هو جلال الدين استقبله وأكرمه وقدم له الطعام، ثم اطمأن له جلال الدين فنام، وهنا قام الفلاح وقتل جلال الدين بالفأس، وأخذ ما عليه من الجواهر وسلمها إلى شهاب الدين غازي صاحب هذه المنطقة، والذي طالما ذاق من ويلات جلال الدين...
هكذا كانت نهاية الظالمين.. ونهاية المفرِّطين.. ونهاية الذين تملكوا رقاب العباد فما رعوا لله حقًا، وما رعوا للرعية حقًا، وما رعوا للرحم حقًا، وعاشوا لأنفسهم فقط، وصدق القائل: "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط".
عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله قال:"إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِى لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْه" .. ثم قرأ:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102][1].


4- نتيجة العوامل السابقة، ونتيجة سوء التربية، وغياب الفهم الصحيح للإسلام، والتمسك بالدنيا إلى أقصى درجة، وعدم وضوح الرؤية عند الناس.. فلا يعلمون العدو من الصديق، ونتيجة الحروب التترية السابقة، والتاريخ الأسود في كل مدينة وقرية مر عليها التتار.. نتيجة كل هذه العوامل فقد دبت الهزيمة النفسية الرهيبة في داخل قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفًا، ولا أن يركبوا خيلًا، بل ذهب عن أذهانهم أصلًا التفكير في المقاومة.. وهذا ولا شك سهّل جدًا من مهمة التتار الذين وجدوا أبوابًا مفتوحة، ورقابًا جاهزة للقطع!!..
يروي ابن الأثير في الكامل في أحداث السنة 628هـ بعض الصور التي استمع إليها بإذنه من بعض الذين كُتبت لهم نجاة أثناء حملات التتار على المدن الإسلامية فيقول: كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس فيبدأ بقتلهم واحدًا تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع!!.
_ أخذ تتري رجلًا من المسلمين، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفًا ثم قتله!!..


_ ويحكي رجل من المسلمين لابن الأثير فيقول: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلًا في طريق، فجاءنا فارس واحد من التتر، وأمرنا أن يقيد بعضنا بعضًا، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟!! فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل ذلك، فأخذت سكينًا وقتلته، وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير!!..


_ دخل التتار بلدة اسمها "بدليس" (في جنوب تركيا الآن) وهي بلدة حصينة جدًا ليس لها إلا طريق ضيق جدًا بين الجبال.. يقول أحد سكانها: لو كان عندنا خمسمائة فارس ما سلم من جيش التتار واحد؛ لأن الطريق ضيق، والقليل يستطيع أن يهزم الكثير.. ولكن -سبحان الله - هرب أهلها إلى الجبال وتركوا المدينة للتتار فقاموا بحرقها!!..


_ كان كل مسلم قبل أن يقتل يستحلف التتري بالله ألا يقتله.. يقول له: "لا بالله لا تقتلني"، فمن كثرة ما سمعها التتار، أخذوا يتغنون بكلمة "لا بالله ".. يقول رجل من المسلمين اختبأ في دار مهجورة ولم يظفر به التتار: إني كنت أرى التتر من نافذة البيت بعد أن يقتلوا الرجال ويسبوا النساء، يركبون على خيولهم وهم يلعبون ويضحكون يغنون قائلين: "لا بالله .. لا بالله "، وهذه - كما يقول ابن كثير -: "طامة عظمى وداهية كبرى فإنا لله وإنا إليه راجعون.."
كان هذا هو وضع المسلمين في ذلك الوقت.. هزيمة نفسية مرة.. واجتياح تتري رهيب..
ماذا فعل شورماجان بعد موت جلال الدين؟
لقد ضم "شورماجان" شمال إقليم فارس (شمال إيران حاليًا) إلى الإمبراطورية التترية، وذلك في سنة 629هـ ثم زحف بعد ذلك على إقليم أذربيجان فضمه إلى أملاكه..
وبتلك الانتصارات التترية -إلى جانب موت جلال الدين على النحو الذي مرّ بنا– اكتمل سقوط إقليم فارس كله في يد التتار باستثناء الشريط الغربي الضيق الذي تسيطر عليه طائفة الإسماعيلية الشيعية.
ثم بدا لشورماجان أن يستقر في هذه المناطق ولا يكمل زحفه إلا بعد ترسيخ قدمه، وتثبيت جيشه، ودراسة المناطق المحيطة... وما إلى ذلك من أمور تدعم السلطان التتري في هذه المنطقة..
ظل "شورماجان" يرسخ حكم التتر في هذه المناطق لمدة خمس سنوات كاملة.. من سنة 629هـ إلى سنة 634هـ ، وأثناء هذه السنوات الخمس لم تخرج عليه ثورة مسلمة!!

Re: القصة الكاملة لخطط ومؤامرات وغزو التتار لبلاد المسلمين وانهاء الخلافة الإسلامية

مشاركة غير مقروءة بواسطة شيرين مدحت »

ولم يتحرك لقتاله جيش مسلم!! مع أن جيوش المسلمين تملأ المناطق المجاورة لفارس وأذربيجان، وذلك في العراق والموصل ومصر والحجاز وغيرها.. لكن الكل كان يشعر أن هذا أمر يهم أهل فارس وأهل أذربيجان، وليس مصيبة عامة على عموم المسلمين..!! لم يشعر المسلمون في الأقطار التي لم تُصَب بعد بِوَيْلات التتار أن عليهم واجبًا تجاه هذه البلاد المنكوبة.. وفي ذات الوقت لم يشعروا أن الدائرة حتمًا ستدور عليهم في يوم من الأيام.. أضف إلى ذلك أن المسلمين في مناطق العراق والشام ومصر والحجاز كان غالبيتهم من العرب، بينما كان غالب المسلمين في إقليم فارس وأذربيجان وشرق الدولة الخوارزمية من غير العرب.. ومع غياب الفهم الإسلامي الصحيح.. وغياب الاستيعاب الكامل للأسس الحقيقية التي يُبنى عليها هذا الدين، ما عاد العربي يشعر بأخيه غير العربي، ولا العكس... كأنهم غرباء بعضهم عن بعض.. بينما هم في الحقيقة.. إخوة!
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
أمر شنيع حقًا ألا يشعر المسلم العربي بأخيه المسلم التركي أو الأفغاني أو الشيشاني أو الهندي أو الفارسي... هذا أمر شنيع.. وقاصمة لظهر الأمة الإسلامية؛ لأن الإسلام دين لا يرتبط بعرق ولا عنصر ولا لون ولا جنس.. إنما الرابط الوحيد هو الإيمان بالله ورسوله وبهذا الدين.. رباط العقيدة.. ولا شيء غير العقيدة..
فعن أبي نضرة قال: قال رسول الله :"يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى"[2].
هكذا جاءت القاعدة واضحة.. لا مكان لعرق أو لون في الإسلام.. إنما المكانة والاعتبار للتقوى..
بل إن الرسول قسم المسلمين إلى طائفتين رئيسيتين لا ثالث لهما.. واعتمد في تقسيمه هذا على مسألة التقوى.. وفي الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله :" أما بعد أيها الناس فإن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية يا أيها الناس إنما الناس رجلان : بر تقي كريم على ربه وفاجر شقي هين على ربه ) ثم تلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13][3].والعبية هي الكبر والفخر..
فالمسلم الصادق هو الذي يتحمس لمن اشترك معه في عقيدة واحدة ولو اختلف أصله أو لونه أو نسبه..
وهكذا فالاعتبار الوحيد المقبول في الإسلام هو اعتبار العقيدة والتقوى..


* الغزو المغولي في الفترة من سنة 634 إلى 649هـ *
=================================
بعد هذه السنوات الخمس في إقليمي فارس وأذربيجان بدأ "شورماجان" في سنة 634هـ في الالتفاف حول بحر قزوين من ناحية الغرب لينطلق شمالًا لاستكمال فتوحاته.. وبسرعة استطاع أن يسيطر على أقاليم أرمينيا وجورجيا (مملكة الكرج النصرانية) والشيشان وداغستان..
ثم بدأ جيش آخر من جيوش التتار بزعامة "باتو بن جاجي" في قيادة الحملات التترية شمال بحر قزوين، وذلك في نفس السنة (634هـ)، و أخذ في قمع القبائل التركية النازلة في حوض نهر الفولجا، ثم زحف بعد ذلك على البلاد الروسية الواسعة، وذلك في سنة 635هـ.
وبدأ هذا الجيش التتري الرهيب يقوم بالمذابح الشنيعة في روسيا النصرانية.. فاستولى على العديد من المدن الروسية، وذلك في سنتي 635 و636هـ.. سقطت تحت أقدام هذا الجيش مدن "ريدان"، ثم "كولومونا" بعدها بأيام، ثم سقطت مدينة "فلاديمير" الكبيرة بعد صمود ستة أيام فقط، واقترن سقوطها بمذبحة بشعة، ثم سقطت "سوذال", ثم توجهت الجيوش التترية إلى أعظم مدن روسيا "موسكو" فتم اجتياحها وتدميرها، ثم سقطت بعد ذلك مدن "يورييف" و"جاليش" و"بريسلاف" و"روستوف" و"ياروسلاف"، ثم سقطت مدينة "تورزوك" وبذلك احتل التتار دولة روسيا بكاملها!!.. (ومع أن مساحة روسيا سبعة عشر مليون كيلومتر مربع.. إلى جانب أعداد سكانها الهائلة وأحوالها المناخية القاسية إلا أن التتار احتلوها بالكامل في عامين فقط!!)


وفي سنة 638 هـ تحركت جيوش التتار غربًا بقيادة "باتو بن جاجي" فاحتلوا دولة أوكرانيا بكاملها (ومساحتها ستمائة ألف كيلومتر مربع), واجتاحوا العاصمة "كييف", ودمروا كنوزها العظيمة، ولقى أكثر سكانها مصرعهم..


وفي سنة 639هـ زحفت فرقة من قوات التتار بقيادة "بايدر" إلى الشمال الغربي من دولة أوكرانيا فدخلت مملكة بولندا، ودمرت الكثير من المدن البولندية، فلم يجد الملك البولندي إلا أن يستعين بالفرسان الألمان القريبين منه (ألمانيا تقع في غرب بولندا مباشرة) فجاء الأمير هنري دوق "سيليزيا الألمانية" واشترك مع ملك بولندا في تكوين جيش واحد لملاقاة التتار، غير أن هذا الجيش لقي هزيمة ساحقة على أيدي الجيوش التترية بقيادة "بايدر".. وبذلك سقطت بولندا أيضًا تحت حكم التتار!..
وفي هذه الأثناء وفي نفس السنة –سنة 639هـ- ترك "باتو" قائد التتار المتمركز في أوكرانيا فرقة تترية في هذه المنطقة، واتجه بجيشه الرئيسي غربًا إلى مملكة المجر حيث التقى مع ملك المجر في موقعة رهيبة دمر على أثرها الجيش المجري بكامله، وبذلك احتُلت المجر أيضًا!
ثم نزل "بايدر" من بولندا في اتجاه الجنوب لمقابلة جيوش التتار بقيادة باتو في المجر، وفي طريقه للنزول اجتاح دولة "سلوفاكيا" وضمها بكاملها إلى دولة التتار!!..
ثم تدفقت الجيوش التترية إلى دولة "كرواتيا" فاجتاحتها!!
وبذلك وصلت الجيوش التترية إلى سواحل البحر الأدرياتي (وهو البحر الفاصل بين كرواتيا وإيطاليا)، وبذلك يكون التتار قد ضموا إلى أملاكهم نصف أوروبا تقريبًا!!..
وكان من الممكن أن تستمر الفتوحات التترية في أوروبا - وقد وصلت حدود دولة التتار إلى دول ألمانيا والنمسا وإيطاليا- لولا أن الخاقان الكبير ملك التتار "أوكيتاي" مات في هذا العام (639 هـ) فاضطر الأمير "باتو بن جاجي" أن يوقف الحملات، ويستخلف أحد قواده على المناطق المفتوحة، ويعود إلى "قراقورم" عاصمة التتار في منغوليا للمشاركة في اختيار الخاقان التتري الجديد..


* أوضاع العالم سنة 639هـ وما بعدها *
========================
- أولا: وصلت حدود دولة التتار في هذه السنة من كوريا شرقًا إلى بولندا غربًا، ومن سيبيريا شمالًا إلى بحر الصين جنوبًا.. وهو اتساع رهيب في وقت محدود.. وأصبحت قوة التتار في ذلك الوقت هي القوة الأولى في العالم بلا منازع..


- ثانيًا: تولى قيادة التتار بعد" أوكيتاي" ابنه "كيوك بن أوكيتاي"، وقد كان لهذا الخاقان الجديد الرأي في تثبيت الأقدام في البلاد المفتوحة بدلًا من إضافة بلاد جديدة قد لا يقوى التتار على حفظ النظام فيها، والسيطرة على شعوبها وجيوشها، ومن ثم فقد توقفت الفتوحات التترية في عهد هذا الخاقان، وإن ظل التتار يحافظون على أملاكهم الواسعة..


- ثالثًا: ابتلع التتار في فتوحاتهم السابقة النصف الشرقي للأمة الإسلامية، وضموا معظم الأقاليم الإسلامية في آسيا إلى دولتهم، وقضوا على كل مظاهر الحضارة في هذه المناطق، كما قضوا تمامًا على أي نوع من المقاومة في هذه المناطق الواسعة، وظل الوضع كذلك لسنوات كثيرة لاحقة..


رابعًا: ظل القسم الأوسط من العالم الإسلامي -والذي يبدأ من العراق إلى مصر- مفرقًا مشتتًا، لا يكتفي فقط بمشاهدة الجيوش التترية وهي تسقط معظم ممالك العالم في وقتهم، وإنما انشغل أهله بالصراعات الداخلية فيما بينهم، وازداد تفككهم بصورة كبيرة..
كذلك كان القسم الغربي من العالم الإسلامي الذي يضم ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وغرب افريقيا.. كان هذا القسم مفككًا تمامًا بعد سقوط دولة الموحدين..


- خامسًا: ذاق الأوربيون النصارى من ويلات التتار كما ذاق المسلمون من قبل، وذبح منهم مئات الآلاف أو الملايين، ودمرت كنائسهم، وأحرقت مدنهم، بل هُددوا تهديدًا حقيقيًا أن يصل التتار إلى عقر دار الكاثولكية النصرانية في روما..


سادسًا: ومع أن النصارى رأوا أفعال التتار إلا أن ملوك النصارى في أوربا الغربية (فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا) كانوا يرون أن هذه مرحلة مؤقتة سوف تقف عند فترة من الفترات، أما حروب النصارى الصليبيين ضد المسلمين فهي حروب دائمة لا تنتهي.. ومن ثم فقد كان ملوك الصليبيين على استعداد كامل للتعاون مع التتار رغم كل الأعداد الهائلة التي قتلت منهم بدلًا من التعاون مع المسلمين!!


أما لماذا يعتقد الصليبيون أن حرب المسلمين دائمة وحرب التتار مؤقتة، فإن ذلك يرجع إلى أن حروب الصليبيين مع المسلمين هي حروب عقيدة، والعداء بين المسلمين والصليبيين يقوم على أساس ديني، والصراع بينهما أبدي.. والنصارى لن ينهوا القتال إلا بدخول إحدى الطائفتين في دين الأخرى، كما يقول الله في كتابه:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
أما حروب التتار مع الصليبيين فلم تكن حروب عقيدة؛ فعقيدة التتار كانت عقيدة مشوهة باهتة.. مجموعة من أديان شتى.. لم يسع قائد تتري واحد لنشر هذه العقيدة في البلاد المغنومة، إنما كان هدف التتار فقط هو الإبادة والتشريد، وجمع المال وسبي النساء والأطفال.. ومن كانت هذه صفته فلا يُتوقع له الاستمرار..
لذلك فإنه على الرغم من الصدمات التي تلقتها أوروبا على يد التتار، إلا أن أوروبا استمرت في تجهيز حملاتها لغزو بلاد المسلمين من ناحية مصر والشام بدلًا من تكثيف الجهود لصد التتار، وفي ذات الوقت فإن حكام أوروبا الغربية الصليبيين ما يئسوا من إمكانية التعاون مع خاقان التتار لسحق الأمة الإسلامية..


- سابعًا: أخذت عقائد الجيش التتري في التغيّر بعد الحملات التي وجهوها إلى أوروبا.. فقد تزوج عدد كبير من قادة المغول من فتيات نصرانيات، وبذلك بدأت الديانة النصرانية تتغلغل نسبيًا في البلاط المغولي، وهذا ساعد أكثر على إمكانية التعاون بين التتار والصليبيين..


ـ ثامنًا: استمرت الحروب الصليبية الأوروبية على المسلمين في مصر والشام، وكانت مصر والشام في ذلك الوقت تحت حكم الأيوبيين، ولكن كانت هذه هي آخر أيام الأيوبيين، وقد دار الصراع بينهم وبين بعضهم، وأصبح المسلمون بين شقي الرحى: بين التتار من ناحية، والصليبيين من ناحية أخرى..


- تاسعًا: في سنة 640هـ توفي المستنصر بالله الخليفة العباسي، وتولى الخلافة ابنه "المستعصم بالله "، وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثين عامًا، وهو وإن كان قد اشتهر بكثرة تلاوة القرآن، وبالنظر في التفسير والفقه، وكثرة أعمال الخير، إلا أنه لم يكن يفقه كثيرًا - ولا قليلا!!ً - في السياسة ، ولم يكن له علم بالرجال؛ فاتخذ بطانة فاسدة، وازداد ضعف الخلافة عما كانت عليه... وسنأتي إلى ذكره بعد ذلك؛ فهو آخر الخلفاء العباسيين، وهو الذي ستسقط بغداد في عهده بعد ذلك..


ـ عاشرًا: لم يبق فاصل بين التتار والخلافة العباسية في العراق إلا شريط ضيق في غرب إقليم فارس، (غرب إيران الآن).. وهو على قدر من الأهمية- وإن كان ضيقًا - ؛ إذ كانت تعيش فيه طائفة الإسماعيلية الخطرة، وكانوا أهل حرب وقتال، ولهم قلاع وحصون، فضلًا عن طبيعة المكان الجبلية..
وكانوا على خلاف دائم مع الخلافة العباسية.. وكراهية شديدة للمذهب السني، وكانوا يتعاونون مع أعداء الإسلام كثيرًا.. فمرة يراسلون التتار، ومرة يراسلون الصليبيين.. وكان التتار يدركون وجودهم، ومع ذلك فهم لا يطمئنون لهم؛ فالتتار ما كانوا يرغبون في بقاء قوة ذات قيمة في أي مكان على ظهر الأرض..
وخلاصة القول بعد هذا التحليل فإن "كيوك بن أوكيتاي" خاقان التتار الجديد استلم مملكة واسعة تعد هي القوة الأولى في العالم، وأن الصليبيين بالرغم مما ذاقوه من التتار فإنهم ما زالوا يطمعون في التعاون معهم ضد المسلمين، أما المسلمون فكانوا في خلافات مستمرة، وتحت ضغوط تترية من ناحية، وصليبية من ناحية أخرى، وليس لأي قائد مسلم في ذلك الوقت أي طموح - كبير أو صغير- في تحرير البلاد واستنقاذ العباد، إنما كانت رغبتهم فقط في تثبيت السلطان على البقعة التي يعيشون عليها مهما صغرت أو ضعفت، ولا حول ولا قوة إلا بالله ..


* محاولات توحيد قوة الصليبين والمغول *
========================
* أحداث الفترة من 639 إلى 649هـ *
========================
* هدوء العاصفة التترية :-
===============
بعد تولية "كيوك بن أوكيتاي" خاقان التتار الجديد قرر أن يوقف الحملات التوسعية، ويتفرغ لتثبيت الأقدام في أجزاء مملكته المختلفة.. وقد ظل "كيوك" يحكم من سنة 639هـ إلى سنة 646هـ وفي هذه السنوات السبع لم يدخل التتار بلاداً جديدة إلا فيما ندر.. وكانت فترة هدوء نسبي في المناطق المجاورة لمملكة التتار، وإن كانت المناطق المنكوبة بالتتار ما زالت تعاني من ظلم وبشاعة الغزو المغولي..
* سفارات بين التتار والصليبيين:-
====================
وعندما رأى الصليبيون في غرب أوروبا النهج غير التوسعي عند "كيوك" تجددت آمالهم في التعاون مع التتار ضد المسلمين، فأرسل البابا "إنوسنت الرابع" سفارة إلى منغوليا في سنة 643هـ، وكان غرض السفارة هو التوحد مع التتار لحرب المسلمين في مصر والشام، (لم يكن همّها -مثلاً- أن ترفع الاحتلال والظلم عن نصارى أوروبا وروسيا), واستقبل "كيوك" السفارة الصليبية بحفاوة لكثرة النصارى في البلاط المغولي، ولكن عندما قرأ كيوك رسالة البابا وجده - بالإضافة إلى طلبه توحيد العمل العسكري ضد المسلمين - فإنه يدعوه إلى اعتناق النصرانية، واعتبر خاقان التتار أن هذا تعدياً من البابا؛ إذ كيف يطلب من خاقان التتار أن يغير من ديانته؟! فأعاد الخاقان "كيوك" السفارة الصليبية بعد أن حملها برسالة إلى البابا يطلب منه أن يجمع أمراء الغرب الأوروبي جميعاً ليأتوا إلى منغوليا لتقديم فروض الولاء والطاعة للخاقان التتري، وبعد ذلك يبدأ التعاون.. وبالطبع رفض ملوك أوروبا الغربية هذا الطلب، وبذلك فشلت السفارة الصليبية في تحقيق أهدافها..
لكن البابا الكاثوليكي "إنوسنت الرابع" لم ييئس من فشل هذه السفارة، بل أرسل سفارة صليبية أخرى، ولكنه هذه المرة أرسلها إلى قائد القواد التترية في مدينة "تبريز" بمنطقة فارس الملاصقة للخلافة الإسلامية، وكان اسمه "بيجو" وذلك في سنة 645هـ، وقد لمس فيه البابا حباً للعدوان والهجوم، وعلم أنه من أنصار التوسع من جديد في أراضي المسلمين، وقد لاقت السفارة ترحيباً كبيراً من "بيجو" الذي توقع أن هجوم الصليبيين على مصر والشام سوف يشغل المسلمين في هذه الأقاليم عن الدفاع عن الخلافة العباسية في العراق، وبذلك تسهل مهمته في اقتحامها.. ولكن لا يخفى على أحد أن صلاحيات "بيجو" لم تكن تؤهله لاتخاذ مثل هذا القرار الاستراتيجي الخطير بالتعاون مع الصليبيين، وكان "كيوك" ما زال على رأيه في عدم التوسع، وعدم التعاون مع الصليبيين إلا بعد خضوعهم له، ومن ثم فشلت أيضاً هذه السفارة الثانية..
* الحملة الصليبية السابعة *
==================
في هذه الأوقات كان لويس التاسع ملك فرنسا يجهز لحملته الصليبية على مصر، والتي عرفت في التاريخ بالحملة الصليبية السابعة، وكان يجمع جيوشه في جزيرة قبرص، وذلك في سنة 646هـ ، وقد رأى "لويس التاسع" أن الأمل لم ينقطع في إمكانية التحالف مع التتار ضد المسلمين، فأرسل سفارة صليبية ثالثة من قبرص إلى منغوليا لطلب التعاون من "كيوك" في هذه الحملة، وزود السفارة بالهدايا الثمينة، والذخائر النفيسة.. لكن عندما وصلت هذه السفارة إلى "قراقورم" العاصمة التترية في منغوليا فوجئت بوفاة خاقان التتار "كيوك" ولم يكن "كيوك" قد ترك إلا أولاداً ثلاثة صغاراً لا يصلحون للحكم في هذه السن الصغيرة فتولت أرملة "كيوك", وكانت تدعى "أوغول قيميش" الوصاية عليهم، ومن ثم تولت حكم التتار وذلك ابتداءً من سنة 64هـ, ولمدة ثلاث سنوات..
توجهت إلى ملكة التتار الجديدة سفارة لويس التاسع فاستقبلتها بحفاوة، لكنها اعتذرت عن إمكانية المساعدة في الحملة الصليبية الآن لأنها مشغولة بالمشاكل الضخمة التي طرأت في مملكة التتار نتيجة موت "كيوك"، بالإضافة إلى أن عامة قواد التتار لم يكونوا موافقين ببساطة على حكم امرأة لدولة التتار العظيمة، والتي تعتمد في الأساس الأول على البطش والإجرام والقوة، فكانت الأوضاع غير مستقرة تماماً في منغوليا..
* الحملة الصليبية السابعة *
==================
لكن لويس التاسع أصر على القيام بحملته حتى مع عدم اشتراك التتار، فتوجه فعلاً من قبرص إلى مصر، ونزل بدمياط في سنة 647هـ، واحتل دمياط, ثم تجاوزها إلى داخل مصر -عبر نهر النيل- في اتجاه القاهرة، ولكن الجيش المصري قابله في المنصورة، وكان معه سلطان مصر "الصالح أيوب" الذي مات بعد ثلاثة أيام من بداية المعركة في المنصورة، وتولت أمر مصر السلطانة "شجر الدر" زوجة الصالح أيوب التي أخفت خبر وفاة زوجها، وراسلت توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان يحكم إحدى المناطق في تركيا، وقامت شجر الدر -بالاشتراك مع قواد الجيش فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس- بإدارة موقعة المنصورة المشهورة ضد الصليبيين، وانتصر المسلمون في هذه موقعة المنصورة، ثم وصل توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى مصر، وتولى حكم البلاد، وانتصر مرة أخرى على الصليبيين في موقعة فارسكور، وأسر لويس التاسع وذلك في سنة 648هـ، ثم حدثت بعض الفتن في مصر، وقتل توران شاه، وتولت شجر الدر ملك مصر علانية، ولكن الجو العام في مصر لم يكن يقبل بولاية امرأة, فتزوجت من أحد قادة المماليك وهو "عز الدين أيبك"، ثم أصبح سلطاناً على مصر، وبذلك وصل المماليك إلى حكم مصر خلفاً للأيوبيين، وسيأتي تفصيل عن نشأة المماليك وطبيعتهم بعد ذلك.
لكن المهم في تلك الأحداث أن نشير إلى ظهور قوة المماليك، وفشل الحملة الصليبية السابعة، وهذا ولا شك قد زاد من حقد الصليبيين، وأكد على ضرورة التعاون مع التتار لحرب المسلمين..
* منكو خان خاقان التتار:-
===============
لم يكن الوضع في منغوليا مستقراً؛ فالتتار لم يستطيعوا قبول أرملة كيوك كملكة عليهم، ومن ثم اجتمع المجلس الوطني للتتار والمسمى "بالقوريلتاي"، وذلك في سنة 649هـ، وقرروا اختيار خاقان جديد للتتار، وبالفعل اختاروا "منكوخان" ليكون زعيماً جديداً للتتار..
وكان اختيار "منكوخان" زعيماً لمملكة التتار بداية تحول كبير في سياسة التتار، وبداية تغيير جذري في المناطق المحيطة بالتتار، فقد كانت لديه سياسة توسعية شبيهة بسياسة جنكيزخان المؤسس الأول لدولة التتار، وشبيهة أيضًا بسياسة أوكيتاي الذي فُتحت أوروبا في عهده... ومن ثم بدأ "منكوخان" يفكر من جديد في إسقاط الخلافة العباسية، وما بعدها من بلاد المسلمين..
* أمراء المسلمين.. فرقة وتناحر:-
====================
للأسف الشديد فإن أمراء المسلمين وقت تولية "منكوخان" لم يكونوا على مستوى الحدث الكبير، والمسلمون - وإن كانوا قد انتصروا في موقعة المنصورة في مصر سنة 648هـ- كانوا مشغولين جداً بأنفسهم، ففضلاً عن الفتن الداخلية في كل إمارة، والتصارع على الحكم، فقد كانت تقوم حروب مريرة بين الإمارات الإسلامية، والضحايا جميعاً من المسلمين..
ومن ذلك الحرب الكبيرة التي دارت بين الجيش المصري بقيادة عز الدين أيبك والجيش الشامي الذي أرسله الناصر يوسف أمير حلب ودمشق، ودارت رحاها في منطقة تسمى "العباسة" (18 كيلومتر شرق مدينة الزقازيق المصرية حالياً) وانتصر فيها الجيش المصري، ولا أدري كيف كانت تطيب نفوسهم بهذه الحروب، والحملات الصليبية لا تتوقف، والتتار يقفون على أبواب الخلافة العباسية!..
والغريب جداً في هذه الفترة أن الحكام والشعوب - بل والعلماء - كانوا قد نسوا تماماً أن نصف الأمة الإسلامية يقع تحت الاحتلال التتري، ونسوا أن التتار أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الخلافة العباسية، ومن الحجاز ومصر والشام، لدرجة أن المؤرخين الذين يؤرخون لهذه الفترة لا يذكرون البتة أي شيء عن التتار!!..
فعلى سبيل المثال تجد ذكر التتار يختفي في كتاب البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله عند تأريخه للفترة من سنة 639هـ إلى 649هـ (فترة حكم "كيوك" ثم أرملته) والتي لم يحدث فيها توسع تتري، وكأن القضية التترية قد حلت، وما ترك ابن كثير رحمه الله الكلام عن التتار إلا لقلة المصادر التي تتحدث عن هذه الفترة، ولقلة الأخبار التي كان أهل العراق والشام ومصر يتناقلونها عن جيوش التتار أو عن المسلمين الذين يعيشون تحت الظلم التتري المستمر..
بل وتجد ابن كثير رحمه الله عند وصفه للحياة في العراق والشام ومصر في هذه السنوات العشر يصف حياة طبيعية جداً، فالخليفة يعالج بعض المشاكل الاقتصادية، ويتصدق على بعض الفقراء، وقد يحدث وباء فيعالج، أو غلاء فيشق ذلك على الناس إلى أن يمنح الخليفة بعضاً من المال لمقاومة الغلاء، وهذا يفتح مدرسة، وذاك يفتح داراً للضيافة، وغيره يفتح داراً للطب، ومن أحوال هذه السنوات أن مات فلان من الشعراء وفلان من الأدباء وفلان من الكرماء وفلان من الوزراء!.. لكن أين العلماء الذي يخطبون على المنابر وفي حلقات العلم يشرحون للناس خطر التتار، ومصيبة المسلمين في البلاد المنكوبة بالتتار؟ وأين الحكام الذين يجهزون شعوبهم ليوم لا محالة هو آت؟ لم يكن هذا مشتهراً في ذلك الوقت.. ومن ثم اختفى ذكره من كتب التاريخ!..
وهكذا فأحداث ذلك الزمان كانت تشير جميعاً إلى أن اجتياحاً تترياً جديداً سوف يحدث قريباً، وذلك على غرار الاجتياح التتري الأول الذي حدث في زمان جنكيزخان، أو على غرار الاجتياح التتري الثاني الذي حدث في زمان أوكيتاي.. ولعله يكون أشد وأنكى؛ لأنه كلما ازداد خنوع المسلمين ازداد طمع التتار وغيرهم فيهم، وكلما فرط المسلمون في شيء طمع أعداء الأمة في الشيء الذي يليه، وهذه سنة ثابتة لأهل الباطل، وراجعوا التاريخ والواقع!!
































* المغول والحرب النفسية ضد المسلمين *
=========================
* الحرب النفسية على المسلمين :-
====================
بالإضافة إلى إعداد الطرق، وتهيئة الوسائل اللازمة لضمان الإمداد والتموين للحملة التترية، وبالإضافة إلى الجهود الدبلوماسية الهائلة التي قام بها التتار لإنجاح خطتهم في إسقاط الخلافة الإسلامية، فإن هولاكو لجأ أيضًا إلى سلاح رهيب، وهو الحرب النفسية على المسلمين..
وقد كانت لهولاكو أكثر من وسيلة لشن هذه الحرب المهولة على المسلمين..
*من هذه الوسائل مثلا :-
==============
القيام ببعض الحملات الإرهابية في المناطق المحيطة بالعراق والتي لم يكن لها غرض إلا بث الرعب، وإحياء ذكرى الحملات التترية الرهيبة التي تمت في السابق في عهود "جنكيزخان" و"أوكيتاي"..
فالحملة التترية الأولى والتي كانت في عهد جنكيزخان مر عليها أكثر من ثلاثين سنة، وهناك أجيال من المسلمين لم تر هذه الأحداث أصلا، وإنما سمعت بها فقط من آبائها وأجدادها.. وليس من سمع كمن شاهد.. والحملة التترية الثانية في عهد أوكيتاي لم يكن من همها التدمير والإبادة في بلاد المسلمين، وإنما كانت موجهة في الأساس لروسيا وشرق أوروبا، ومن ثم لم يتأثر بها المسلمون بصورة كبيرة..
ولذلك أراد هولاكو أن يقوم ببعض النشاط العسكري التدميري والإرهابي بغرض إعلام المسلمين أن حروب التتار ما زالت لا تقاوم.. وأن جيوش التتار ما زالت قوية ومنتشرة..
من ذلك مثلا ما حدث في سنة 650هـ عندما قامت فرقة تترية بمهاجمة مناطق الجزيرة وسروج وسنجار، وهي مناطق في شمال العراق، فقتلوا ونهبوا وسبوا، ومما فعلوه في هذه الهجمة أنهم استولوا على أموال ضخمة كانت في قافلة تجارية، وقد بلغت هذه الأموال أكثر من ستمائة ألف دينار، (وما أشبه هذا بما يحدث اليوم تحت مسميات مثل: تجميد الأموال..)
ولا شك أنها كانت خسارة كبيرة للخلافة العباسية، وفي ذات الوقت كانت نوعًا من تجهيز الجيش التتري بالمال والعتاد، وفوق ذلك كانت هذه الحملات تقوم بدور الاستطلاع والمراقبة والدراسة لطرق العراق وجغرافيتها.. هذا كله إلى جانب بث الرعب في قلوب المسلمين.. فكانت هذه الحروب بمثابة حروب الاستنزاف، فأضعفت من قوة الخلافة والمسلمين كثيرًا، وهيأت المناخ للحرب الكبيرة القادمة.. وأمثال هذه الحروب يتكرر في التاريخ كثيرًا.. وما مذبحة دير ياسين- وما أحدثته من آثار- منا ببعيد..
2- ومن وسائل التتار الخطيرة في حربهم النفسية ضد المسلمين الحرب الإعلامية القذرة التي كان يقودها بعض من أتباع التتار في بلاد المسلمين يتحدثون فيها عن قدرات التتار الهائلة، واستعداداتهم الخرافية، ويوسعون الفجوة جدًا بين إمكانيات التتار وإمكانيات المسلمين.. وتسربت هذه الأفكار إلى وسائل الإعلام في زمانهم.. ووسائل الإعلام في ذلك الوقت هم الشعراء والأدباء والقصاصون والمؤرخون.. وقد ظهر في كتاباتهم ما يجعل المسلمين يحبطون تمامًا من قتال التتار وذلك مثل:
- التتار تصل إليهم أخبار الأمم، ولا تصل أخبارهم إلى الأمم.. (كناية عن قوة وبأس المخابرات التترية، وحسن التمويه والتخفي عندهم، بالإضافة إلى ضعف المخابرات الإسلامية وهوانها)..
- التتار إذا أرادوا جهة كتموا أمرهم، ونهضوا دفعة واحدة، فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه..
- التتار نساؤهم يقاتلن كرجالهم.. (فأصبح رجال المسلمين يخافون من نساء التتار)..!!
- التتار خيولهم تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق النبات، ولا تحتاج إلى الشعير!..
- التتار لا يحتاجون إلى الإمداد والتموين والمؤن؛ فإنهم يتحركون بالأغنام والبقر والخيول ولا يحتاجون مددًا..
- التتار يأكلون جميع اللحوم.. ويأكلون ..... بني آدم!!!..
ولا شك أن مثل هذه الكتابات كانت ترعب العوام.. وأحيانًا تؤثر في نفوس الخواص.. وهذا من البلاء الذي جنته الأمة على نفسها.. وما جناه عليها أحد..
3 - وكان أيضًا من وسائل التتار المشهورة لشن حرب نفسية على المسلمين كتابة الرسائل التهددية الخطيرة، وإرسالها إلى ملوك وأمراء المسلمين، وكان من حماقة هؤلاء الأمراء أنهم يكشفون مثل هذه الرسائل على الناس، فتحدث الرهبة من التتار، وكان التتار من الذكاء بحيث إنهم كانوا يستخدمون بعض الوصوليين والمنافقين من الأدباء المسلمين ليكتبوا لهم هذه الرسائل، وليصوغوها بالطريقة التي يفهمها المسلمون في ذلك الزمان، وبأسلوب السجع المشهور آنذاك، وهذا ولا شك يصل إلى قلوب الناس أكثر من الكلام المترجم الذي قد يفهم بأكثر من صورة، كما أن التتار حاولوا في رسائلهم أن يخدعوا الناس بأنهم من المسلمين، وليسوا من الكفار، وأنهم يؤمنون بكتاب الله القرآن، وأن جذورهم إسلامية، وأنهم ما جاءوا إلى هذه البلاد إلا ليرفعوا ظلم ولاة المسلمين عن كاهل الشعوب البسيطة المسكينة (وفي زماننا الحديث ما جاءوا الأمريكان إلا لتحرير العراق!!)، ومع أن بطش التتار وظلمهم قد انتشر واشتهر، إلا أن هذا الكلام كان يدخل في القلوب المريضة الخائفة المرتعبة، فيعطي لها المبرر لقبول اجتياح التتار، ويعطي لها المبرر لإلقاء السيف، ولاستقبال التتار استقبال الفاتحين المحررين بدلًا من استقبالهم كغزاة محتلين..
لقد كانت هذه الرسائل التترية تخالف الواقع كثيرًا، ولكنها عندما تقع في يد من أحبط نفسيًا وهزم داخليًا، فإنها يكون لها أثر ما بعده أثر..
وكمثال على هذه الرسائل أذكر هنا الرسالة التي أرسلها هولاكو إلى أحد أمراء المسلمين وقال فيها:
"نحن جنود الله ..
بنا ينتقم ممن عتا وتجبر، وطغى وتكبر، وبأمر الله ما ائتمر..
نحن قد أهلكنا البلاد، وأبدنا العباد، وقتلنا النساء والأولاد..
فيا أيها الباقون، أنتم بمن مضى لاحقون..
ويا أيها الغافلون، أنتم إليهم تساقون..
مقصدنا الانتقام، وملكنا لا يرام، ونزيلنا لا يضام..
وعدلنا في ملكنا قد اشتهر، ومن سيوفنا أين المفر؟
دمرنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأهلكنا العباد، وأذقناهم العذاب..
وجعلنا عظيمهم صغيرًا، وأميرهم أسيرًا..
تحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون، وعن قليل تعلمون على ما تقدمون
وقد أعذر من أنذر"..
ولا شك أن مثل هذه الرسالة إذا وقعت في يد خائف أو جبان، فإنه لن يقوى على الحراك أبدًا بعد قراءتها، وكان هذا هو عين المرجو من وراء مثل هذه الرسائل!!..
4- ومن وسائل التتار أيضًا لشن الحرب النفسية على المسلمين إعلان التحالفات بين التتار وبين الأرمن والكرج وغيرهم، وإبراز رغبة الملوك الصليبيين في أوروبا في التعاون مع ملك التتار، وتضخيم هذه التحالفات جدًا، حتى يعتقد المسلمون أنهم يقاتلون أهل الأرض جميعًا، وأنهم لا طاقة لهم بحربهم، مع أن الأيام السابقة في تاريخ المسلمين حملت الكثير من الانتصارات على هؤلاء أنفسهم، وعلى أضعافهم، ولكن نسي المسلمون تاريخهم، وانبهروا بقوة عدوهم وحلفائه..
5- ومن وسائل التتار أيضًا في حربهم النفسية التعاون مع أمراء المسلمين كما ذكرنا عند الحديث عن الجهود الدبلوماسية للتتار، فلا شك أن الشعب المسلم إذا وجد قائده الذي من المفروض أن يتولى أموره، ويدافع عنه، ويبذل روحه في سبيل تأمين بلده، هو الذي يتمنى أن يصالح هؤلاء التتار ويتعاون معهم، بل ويعد ذلك إنجازًا من إنجازاته (مثل انجازات السيسي وحكام العرب الصهاينة بعهدنا الحديث مع قادة اسرائيل الصهاينة ضد الشعوب العربية والإسلامية)..!! وبلا شك أن الشعب المسلم إذا وجد ذلك فإنه يحبط إحباطًا شديدًا، ويفقد كل حماسة للدفاع عن أرضه وعن وطنه..
بهذه الوسائل وبغيرها استطاع التتار أن يبثوا الرعب والهلع في قلوب المسلمين، وبذلك أصبح المناخ مناسبًا جدًا لدخول القوات التترية الغازية..
* المحور الرابع :-
============
* إضعاف جيوش الخلافة العباسية :-
======================
وقد عمد هولاكو إلى أن يطلب من الوزير الفاسد "مؤيد الدين العلقمي" أن يقنع الخليفة العباسي "المستعصم بالله " أن يخفض من ميزانية الجيش، وأن يقلل من أعداد الجنود، وأن لا يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب.. بل يُحول الجيش إلى الأعمال المدنية من زراعة وصناعة وغيرها (مثلما فعل السيسي بجيش مصر حالياً)..
والجميع يرى اليوم اشتغال الجند في بعض بلاد المسلمين بزراعة الخضراوات وبناء الجسور.. وأعمال المخابز والنوادي...!! دون كبير اهتمام بالتدريب والقتال والسلاح والجهاد..! وقد قام بذلك فعلًا الوزير العميل مؤيد الدين العلقمي، وهذا لا يستغرب من مثله، ولكن الذي يستغرب فعلًا أن الخليفة قبل هذه الأفكار المخجلة، وذلك كما أشار عليه الوزير الفاسد حتى لا يثير حفيظة التتار، وليثبت لهم أنه رجل سلام ولا يريد الحروب!.. لقد قام الخليفة فعلًا بخفض ميزانية التسليح، وقام أيضًا بتقليل عدد الجنود، حتى أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام المستنصر بالله والد المستعصم بالله وذلك في سنة 640هـ، أصبح هذا الجيش لا يزيد على عشرة آلاف فارس فقط في سنة 654هـ!!!.. وهذا يعني هبوط مروع في الإمكانيات العسكرية للخلافة.. ليس هذا فقط بل أصبح الجنود في حالة مزرية من الفقر والضياع، حتى إنهم كانوا يسألون الناس في الأسواق!.. وأهملت التدريبات العسكرية، وفقد قواد الجيش أي مكانة لهم، ولم يعد يذكر من بينهم من له القدرة على التخطيط والإدارة والقيادة، ونسي المسلمون فنون القتال والنزال، وغابت عن أذهانهم معاني الجهاد!!..
وهذه والله الخيانة الكبرى.. والجريمة العظمى!!..
ويلقي ابن كثير -رحمه الله - باللوم الكامل على مؤيد الدين العلقمي في نصائحه للخليفة المستعصم بالله ، ولكني ألقي باللوم الأكبر على الخليفة ذاته، الذي قبل بهذا الهوان، ورضي بهذا الذل، وغاب عن ذهنه أن من أهم واجباته كحاكم أن يضمن لشعبه الأمن والأمان، وأن يدافع عن ترابه وأرضه ضد أي غزو أو احتلال، وأن يبذل قصارى جهده لتقوية جيشه، وتسليح جنده، وأن يربي الشعب بكامله -لا الجيش فقط- على حب الجهاد والموت في سبيل الله ..
لم يفعل الخليفة المستعصم بالله كل ذلك، ولا عذر له عندي؛ فقد كان يملك من السلطان ما يجعله قادرًا على اتخاذ القرار.. لكن النفوس الضعيفة لا تقوى على اتخاذ القرارات الحاسمة..

Re: القصة الكاملة لخطط ومؤامرات وغزو التتار لبلاد المسلمين وانهاء الخلافة الإسلامية

مشاركة غير مقروءة بواسطة شيرين مدحت »

* الطريق إلى بغداد *
*****************
* وقفة تحليلية :-
==========
لابد أن نقف الآن وقفة مع هولاكو في سنة 654هـ بعد خمس سنوات كاملة من الإعداد والتجهيز للحرب الكبيرة القادمة:
أولاً: أصبحت كل الطرق الواصلة بين الصين والعراق قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، وصنعت العربات اللازمة لنقل المعدات الثقيلة، وفرغت السهول والطرق من المواشي لترك الأعشاب لخيول التتار..


ثانياً: سيطر التتار على كل المحاور المهمة في المساحات الشاسعة التي تقع بين الصين والعراق، وبذلك تحققت مهمة تأمين الجيوش التترية أثناء سيرها واختراقها لهذه الأراضي..


ثالثاً: توفرت لدى هولاكو المعلومات الكافية عن أرض العراق، وتحصينات بغداد، وأعداد الجنود العباسيين وحالتهم العسكرية، واطلع اطلاعاً كاملاً على خبايا الاقتصاد الإسلامي، وتوفرت له أيضاً المعلومات عن عناصر القوة والضعف في الخلافة العباسية، وعن الأسماء التي لها دور في تغيير مسار الأحداث، وكذلك جمع المعلومات عن حالة الناس النفسية، وعن طموحاتهم ورغباتهم..
كل هذه المعلومات توفرت له عن طريق عيونه الكثيرة، ومخابراته الماهرة، واتصالاته مع بعض الرموز الهامة في البلاد الإسلامية، والتي وصلت أحياناً إلى الاتصالات مع الأمراء والوزراء كما وضحنا..


رابعاً: عقد التتار معاهدات وتحالفات مع نصارى الأرمن والكرج وأنطاكية، وأخذوا الوعود منهم بالمساعدة العسكرية والمخابراتية في المعركة القادمة..


خامساً: تم تحييد ملوك أوروبا الغربية، ولم يكن هذا التحييد سياسياً في المقام الأول، إنما كان عن طريق السلطان، وفرض الكلمة بقوة الرأي والسلاح..


سادساً: تم الاتفاق مع معظم أمراء الممالك الإسلامية المحيطة بشمال وغرب العراق (تركيا وسوريا) على أن يعطوا الولاء الكامل، والمساعدة غير المشروطة لهولاكو، وذلك في حال حربه مع الخلافة العباسية، وللأسف فمعظم هؤلاء الأمراء كانوا من الأكراد من أحفاد صلاح الدين الأيوبي –رحمه الله -!..


سابعاً: تأكد هولاكو من انهيار الروح المعنوية عند المسلمين في العراق وما حولها، يتساوى في ذلك الحكام والمحكومون..


ثامناً: أقام هولاكو علاقات وثيقة مع وزير الدولة الأول مؤيد الدين العلقمي الشيعي، وضمن ولاءه التام له..


تاسعاً: تيقن هولاكو من ضعف جيش الخلافة العباسية وقلة حيلته، وأدرك أنه لا يستطيع بأي حال أن يدافع عن نفسه فضلاً عن بغداد!..


عاشراً: أدرك هولاكو كل شيء عن الخليفة "المستعصم بالله " خليفة المسلمين، وعرف إمكانياته، وقدّر طاقته، وعلم نقاط ضعفه..
تمت كل هذه الأمور واكتملت لهولاكو في سنة 654هـ..


* الجيش المغولي التتري *
=================
هنا - وبعد خمس سنوات من الإعداد - أدرك هولاكو أن المناخ العام أصبح ملائماً للهجوم المباشر على الخلافة العباسية, وإسقاط بغداد.. فبدأ عملية حشد هائلة للجنود التتار؛ ليجمع بذلك أكبر جيوش التتار على الإطلاق منذ قامت دولة جنكيزخان.. بحيث كان الجنود المكلفون بحصار بغداد فقط أكثر من مائتي ألف جندي، هذا بخلاف الأعداد الهائلة من الجنود المنتشرة في شمال العراق وشرقه، والقوات المكلفة بحماية الطرق وتأمين الإمداد والتموين، هذا غير الفرق المساعدة للجيش سواء فرق الإمداد والتموين، أو فرق الاستطلاع والمراقبة..
ونستطيع أن نتبين تركيبة الجيش التتري كما يلي:
أولاً: الجيش التتري الأصلي، والذي كان يتمركز منذ سنوات في منطقة فارس وأذربيجان شرق العراق..


ثانياً: استدعى هولاكو فرقة من جيش التتار المتمركزة في حوض نهر الفولجا الروسي، والتي كانت تحت زعامة القائد التتري الشهير "باتو" (فاتح أوروبا)، ولكن باتو لم يأت بنفسه وإنما أرسل ثلاثة من أبناء أخيه، وكان "باتو" وعائلته قد كونوا دولة مستقرة في منطقة حوض نهر الفولجا، وأطلقوا على أنفسهم اسم "القبيلة الذهبية"، ومع استقلالهم النسبي في إدارة أمورهم إلا إنهم كانوا في النهاية يتبعون زعيم التتار "منكوخان"..


ثالثاً: أرسل هولاكو في طلب فرقة من جيش التتار المكلف بفتح أوروبا، والذي كان يتمركز على أطراف الأناضول (شمال تركيا)، فجاءت الفرقة وعلى رأسها القائد المغولي الكبير "بيجو"، وقد جاءت هذه الفرقة مخترقة الأناضول وشمال العراق ومتجهة إلى بغداد، ولم تلق أي نوع من المقاومة أثناء هذا الطريق الطويل؛ لأن حكام هذه المناطق المسلمة كانوا قد أفرغوا المجال الأرضي لقوات التتار، فسارت في أمان وسط إمارات الأناضول والموصل وحلب وحمص!..


رابعاً: أرسل هولاكو إلى "صديقه" ملك أرمينيا يطلب المساعدة، فجاءه "هيثوم" ملك أرمينيا بنفسه على رأس فرقة من جيشه..


خامساً: طلب هولاكو أيضاً من ملك الكرج أن يرسل فرقة للمساعدة في حصار العراق فاستجاب فوراً..


سادساً: استدعى هولاكو ألفاً من الرماة الصينيين المهرة الذين اشتهروا بتسديد السهام المحملة بالنيران..


سابعاً : وضع هولاكو على رأس جيوشه أفضل قواده، وكان اسمه "كتبغا نوين" وفوق إمكانياته القيادية والمهارية فإنه كان نصرانياً، وبذلك يستطيع التعامل مع الأعداد الكبيرة النصرانية المشاركة في الجيش.. وبذلك ضم الجيش التتري بين صفوفه ثلاثة من أمهر القادة العسكريين في تاريخ التتار، وهم هولاكو وكتبغا وبيجو.


ثامناً: راسل هولاكو أمير أنطاكية "بوهمند"، ولكن تعذر عليه أن يخترق الشام كله للذهاب إلى العراق، ولكنه كان على استعداد تام للحرب، فإذا سقطت العراق شارك في إسقاط الشام..
تاسعاً: أرسل الناصر يوسف أمير دمشق ابنه العزيز ليكون في جيش هولاكو..


عاشراً: أرسل أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ فرقة مساعدة لجيش التتار.. وهاتان الفرقتان وإن كانتا هزيلتين إلا إنهما كانتا تحملان معاني كثيرة.. فهناك في جيش التتار مسلمون يشتركون مع التتار في حرب المسلمين!! بل قد يشارك في عملية "تحرير العراق" عراقيون متحالفون مع التتار!!.. عراقيون باعوا كل شيء في مقابل كرسي صغير أو إمارة تافهة أو دارهم معدودات.. أو مجرد حياة.. أي حياة..
وبهذا الإعداد رفيع المستوى اكتمل الجيش التتري، وبدأ في الزحف من فارس في اتجاه الغرب إلى العراق، وبدأ هولاكو يضع خطة المعركة..


* هولاكو والقضاء على طائفة الإسماعيلية :-
==========================
بدراسة مسرح العمليات وجد هولاكو أن طائفة الإسماعيلية الشيعية التي تتمركز في الجبال في غرب فارس وشرق العراق سوف تمثل خطورة على الجيش التتري.. فطائفة الإسماعيلية مشهورة بقوة القتال، وبالحصون المنيعة، وهي طائفة لا عهد لها ولا أمان.. ومع أن التتار يعلمون أن الإسماعيلية كانوا على خلاف شديد مع الخلافة العباسية، ومع أنهم راسلوا قبل ذ لك التتار ليدلوهم على ضعف جلال الدين بن خوارزم قبل مقتله في سنة 629هـ، ومع أنهم من المنافقين الذين يتزلفون لأصحاب القوة..
مع كل هذه الاعتبارات إلا أن التتار لم يكونوا يأمنون أن تتحرك الجيوش التترية إلى العراق، ويتركون في ظهرهم قوات عسكرية للإسماعيلية.. هذا بالإضافة إلى ثأر قديم كان بين التتار والإسماعيلية، فقد قتلت الإسماعيلية ابناً من أبناء جنكيزخان اسمه "جغتاي"، وذلك أيام حملة جنكيزخان على فارس، منذ أكثر من ثلاثين سنة..! ولم ينس التتار هذا الثأر لأنه يخص ابن الزعيم الأكبر لهم، والذي جعل منهم مملكة لها شأن في الدنيا، كما أن حكام التتار من نفس عائلة جنكيزخان، ويعتبرون الثأر من الإسماعيلية مسألة شخصية بحتة، حتى إن الجيوش التترية كانوا يصحبون معهم في حربهم ابنة "جغتاي" القتيل القديم، وذلك لزيادة حماستهم في القتال، ولكي تقوم بنفسها بالثأر لأبيها..
كل هذا دفع التتار إلى العزم على التخلص من الإسماعيلية نهائياً.. وصدرت الأوامر من قراقورم بمنغوليا بإبادة هذه الطائفة من على الوجود..
وتحركت الجيوش الهائلة صوب معاقل الإسماعيلية، واقتربت من أقوى حصونهم على الإطلاق وهو حصن "آلموت" في غرب فارس، وما هي إلا أيام حتى تم تطويق الحصن المنيع، ولما شاهد زعيم الإسماعيلية "ركن الدين خورشاه" هذه الأعداد التي لا تحصى طلب أن يقابل هولاكو، وقبل هولاكو ليختصر الوقت؛ فالإسماعيلية ليست إلا محطة صغيرة قبل الوصول إلى بغداد.. والتقى هولاكو بركن الدين خورشاه الذي أعلن خضوعه الكامل لهولاكو، وتسليمه للقلعة الحصينة، ولكن قائد القلعة رفض التسليم، وصمم على القتال عاصياً بذلك أمر قائده ركن الدين خورشاه، ففتح التتار القلعة عنوة بعد ذلك بأيام، وذبحوا كل من فيها، وطلب ركن الدين خورشاه من هولاكو أن يرسله إلى "منكوخان" ليتفاوض معه شخصياً في تسليم كل قلاع الإسماعيلية في مقابل بعض الوعود، وقد أرسله فعلاً هولاكو إلى منكوخان محاطاً بفرقة تترية، ولكن منكوخان رفض أن يقابله واستحقره جداً وقال: "إن هولاكو قد أخطأ بإرهاق الخيول التترية الجيدة في هذه الرحلة الطويلة من أجل هذه السفارة التافهة.." ثم أمر جنوده بإعادة ركن الدين خورشاه إلى فارس، وفي الطريق قتل ركن الدين خورشاه كما يقولون "في ظروف غامضة"، وإن كانت الظروف ليست بغامضة فمن الواضح أن "منكوخان" قد أوصى بقتله، ولكن خارج البلاط المغولي لئلا يتهم البلاط بالغدر!..
وبعد قتل ركن الدين خورشاه قام "هولاكو" بخدعة خبيثة قذرة في مناطق الإسماعيلية، فقد أظهر لهم أنه على استعداد للاتفاق معهم، والتعاون سوياً لدخول بغداد، وطلب من قواد الإسماعيلية أن يقوموا باستدعاء الإسماعيلية من كل مكان حتى يقوم التتار بعملية إحصاء لأعداد الإسماعيلية، وعلى ضوء هذا الإحصاء سيكون الاتفاق، فإن هولاكو -كما يزعم- يخشى أن يضخم الإسماعيلية أنفسهم للحصول على مكاسب أكبر، وبهذه الحيلة بدأ الإسماعيلية في جمع كل أعوانهم حتى جاء رجال من العراق ومن الشام، وعندما اجتمع هذا العدد الكبير قام هولاكو بمذبحة بشعة فيهم، وقتل كل من أمسكه في يده، ولم ينس أن يأخذ مجموعة من الرجال إلى "سالقان خاتون" ابنة "جغتاي" وحفيدة جنكيزخان لتقتلهم بيدها لتأخذ بثأر أبيها "جغتاي" المقتول على يد الإسماعيلية قبل ذلك..
وهكذا تم في خلال سنة 655هـ استئصال شأفة الإسماعيلية في هذه المنطقة كلها تقريباً، ولم ينج منهم إلا الشريد الذي كان يعيش في الشام أو العراق، ولم يأت في عملية الإحصاء المزعومة..
* إلى العاصمة بغداد *
==============
بذلك أصبح الطريق آمناً مفتوحاً إلى بغداد .. وبدأت الجيوش المغولية الرابضة في فارس تزحف ببطء - ولكن بنظام - في اتجاه عاصمة الخلافة، ووضح للجميع أن اللحظات المتبقية في عمر العاصمة الإسلامية أصبحت قليلة.. بل قليلة جداً!!..
وقبل التحدث عن حصار بغداد وسقوطها، فإنني أود أن أشير إلى أن هذا الإسهاب النسبي في شرح إعداد هولاكو للحرب مع الخلافة لم يُقصد منه إبراز الانبهار "بهولاكو"، أو إبراز الاحتقار للمسلمين، إنما هو محاولة للبحث عن مبرر واضح للنتائج الرهيبة التي حدثت عند سقوط بغداد، فالناظر إلى الأحداث دون تعمق، والدارس للأمر دراسة سطحية قد يتساءل: لماذا يسمح الله للتتار وهم من أخس أهل الأرض، ومن الوثنيين الظالمين السفاكين للدماء المستبيحين للحرمات بأن يفعلوا كل هذا الذي فعلوه بالمسلمين.. والمسلمون مهما كانوا فهم من الموحدين لله المقيمين للصلاة والقارئين لكتاب الله ؟!
فأحببت أن أتجول معكم في هذا الإعداد الطويل المرتب الذي لم يقابل بأقل درجات الاهتمام من جانب المسلمين لتحدث المأساة الكبرى.. والبلية العظمى..
إن الذي يعتمد فقط على كونه من الموحدين المسلمين، ولا يعد العدة ولا يأخذ بالأسباب واهم في إمكانية تحقيق النصر.. إن التتار لم ينتصروا على المسلمين لكرامة لهم عند الله ، فهم من أقبح شعوب الأرض فعلاً، ومن أسوأهم أخلاقاً، ولكنهم أعدوا العدة.. وأخذوا بالأسباب فتحققت على أيديهم النتائج التي خططوا لها..
وهذه سنة مطردة.. وكثيراً ما رأينا اليهود أو النصارى أو البوذيين أو الهندوس ينتصرون على المسلمين، ويكثرون من إهانتهم، إذا أخذ هؤلاء بالأسباب المادية، وتركها المسلمون..
وليس المقصود من وراء ذلك أن يعتمد المسلمون على الأسباب المادية فقط ويتركوا مسبب الأسباب سبحانه وتعالى.. إنما المقصود هو العمل الجاد الدءوب المتواصل مع رفع الأيدي إلى الله طلبًا للتوفيق والنصر.. وإذا تم النصر علمنا أنه من عند الله ، ولم نتكبر أو نتجبر أو نعتقد في خروجنا عن دائرة حكم الله ..
والتاريخ -يا إخواني-يتكرر..
وما فعله التتار من إعداد ضد المسلمين فعله غيرهم بعد ذلك..
وما فعله المسلمون من تهاون وإهمال فعله المسلمون بعد ذلك أيضاً..
وإذا كانت النتائج التي حدثت في أيام التتار قد جاءت على تلك الصورة، فلا شك أن النتائج في عصرنا ستأتي على نفس الصورة إذا لم يفقه المسلمون الأمر فيعيدوا ترتيب أوراقهم وفقاً للفهم الصحيح..
* بغداد قبل السقوط *
===================
اجتمع هولاكو مع كبار مستشاريه في مجلس حرب يعد من أهم مجالس الحرب في تاريخ التتار، لقد أخذ القرار بغزو العاصمة "بغداد"، وكان هولاكو قلقًا من أي مفاجئات، وبالذات من الأمراء المسلمين الذين انضموا إلى جيشه، ولذلك وضع على الفرق الإسلامية التي معه مراقبة شديدة، ولكن مخاوفه لم تمنعه من التقدم، كما أنها لم تكن حقيقية؛ لأن الأمراء المسلمين الذين انضموا إليه لم يكن في نيتهم أبدًا الغدر "بهولاكو"، إنما كان العزم - كل العزم - أن يغدروا "ببغداد"!..
* أقسام الجيش التتري :-
===============
كان مجلس الحرب معقودًا في مدينة "همدان" الفارسية (في إيران حاليًا) وهي تقع على مسافة حوالي450 كيلو مترًا من بغداد إلى الشمال الشرقي.. وقرر هولاكو في هذا المجلس أن يقسم جيشه إلى ثلاثة أقسام:
* الجيش الأول:-
==========
هو القلب، وهو القسم الرئيسي من الجيش، وسيقوده هولاكو بنفسه، وستلحق به الإمدادات التي سيرسلها "باتو" زعيم القبيلة الذهبية التترية، وكذلك ستلحق به الفرق المساعدة من مملكتي أرمينيا والكرج، وهذا القسم من الجيش سيخترق الجبال الواقعة في غرب فارس صوب بغداد مباشرة مرورًا بمدينة كرمان شاه، وستكون مهمة هذا الجيش حصار بغداد من الجهة الشرقية..
* الجيش الثاني :-
===========
هو الجناح الأيسر لجيش التتار، وهذا سيقوده "كتبغا" أفضل قواد هولاكو، وسيتحرك هذا الجيش بمفرده في اتجاه بغداد أيضًا، ولكن إلى الجنوب من الجيش الأول، وقد تم فصل الجيشين حتى لا تستطيع المخابرات الإسلامية ـ إن وجدت ـ أن تقدر العدد الصحيح للجيش التتري، بالإضافة إلى أن الطرق لا تستوعب هذه الأعداد الهائلة من الجنود، فضلًا على أن هذا الجيش ستكون له مهمة اختراق سهول العراق، والتوجه إلى بغداد من جهة الجنوب، وحصارها من جهتها الجنوبية الشرقية..
ومع أن المسافة تبلغ 450 كيلومترًا إلا أن هولاكو كان من الحذر الكافي بحيث استطاع أن يخفي هذا الجيش عن عيون العباسيين ـ إن كانت هناك عيون ـ فلم يكتشف العباسيون الجيش إلا وهو على بعد كيلومترات معدودة من بغداد!!..
* الجيش الثالث :-
===========
فكان هو الجيش التتري الرابض على أطراف الأناضول (في شمال تركيا الآن) والذي كان مكلفًا بفتح أوروبا قبل ذلك، وعلى رأس هذا الجيش الزعيم التتري الكبير "بيجو"، وكان على هذا الجيش أن يأتي من هذه المناطق الشمالية في اتجاه الجنوب حتى يصل بغداد من شمالها، ثم يلتف حولها ليحاصرها من جهة الغرب، وبذلك تحصر بغداد بين هولاكو شرقًا وكتبغا من الجنوب الشرقي وبيجو من الغرب.
لكن هناك مشكلتين كبيرتين أمام هذا الجيش الثالث:
* المشكلة الأولى :-
============
فإن عليه أن يضبط توقيته حتى يأتي بغداد في نفس الوقت الذي يأتي فيه جيش هولاكو، وإلا وجد نفسه وحيدًا أمام العباسيين إن جاء مبكرًا، أو ترك هولاكو وحيدًا إن كان متأخرًا.. فإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه التحركات تدور في زمان ليست فيه وسائل انتقال معلومة السرعة بدقة.. وليست فيه وسائل الاتصال إلا عن طريق الخيول، وليست هناك طرق ممهدة علمنا صعوبة هذه النقطة.. ومع ذلك فقد وصل بيجو في التوقيت المناسب إلى بغداد، دلالة على دقة حساباته، ومهارته في التحرك بهذا الجيش الكبير..
* المشكلة الثانية :-
============
من المفروض أنها أكبر بكثير من المشكلة الأولى.. وهي أن هذا الجيش الثالث - لكي يصل إلى بغداد - عليه أن يخترق مسافة خمسمائة كيلومتر في الأراضي التركية، ثم خمسمائة كيلومتر أخرى في الأراضي العراقية.. وهذه كلها أراضٍ إسلامية..!! أي أنه يجب أن يسير مسافة ألف كيلومتر في أعماق العالم الإسلامي حتى يصل إلى بغداد.. وتذكر أننا نتحدث عن زمن ليس فيه طائرات.. أي أنه ليس هناك غطاء جوي يكفل له الحركة في أمان، أو يضمن له تدمير ما يقابله من معوقات.. لقد كانت أقل المخاطر التي تواجه هذا الجيش أن يُكتشف أمره، فيفقد - على الأقل- عنصر المباغتة، ويستعد له الجيش العباسي قبل وصوله، أما المخاطر الأكبر التي كانت في انتظاره فهي أن يجد مقاومة شرسة في طريقه المليء بالتجمعات السكنية الهائلة.. وكلها تجمعات إسلامية، أو أن تُنصب له الكمائن، وتوضع له الشراك.. وتذكر أنه يخوض في أرض يدخلها للمرة الأولى في حياته، لكن -سبحان الله !- كل هذا لم يحدث.. لقد قطع "بيجو" بجيشه 95% من الطريق (أي حوالي950 كيلومترًا) دون أن تدري الخلافة العباسية عنه شيئًا..!!
لقد باغت "بيجو" الخلافة العباسية على بعد خمسين كيلومترًا فقط شمال غرب بغداد!! لقد اكتشف العباسيون جيش "بيجو" تمامًا كما اكتشفوا جيش هولاكو، عندما كان كلا الجيشين على مسيرة يوم واحد من بغداد!!..
وإن كنا نقول: إن جيش هولاكو كان يتخفى بالجبال، ويسير في أراضٍ غالبها تحت سيطرة التتار، فكيف نفسر مباغتة بيجو لبغداد بهذه الصورة؟!!
إن تبرير اختراق "بيجو" للأراضي الإسلامية يحمل معه مصيبتين عظيمتين:
**أما المصيبة الأولى: فهي غياب المخابرات الإسلامية عن الساحة تمامًا، وواضح أن الجيش العباسي كان لا علم له ولا دراية بإدارة الحروب أو فنونها..
**أما المصيبة الثانية والأعظم: فهي أن هناك خيانة كبرى من أمراء الأناضول والموصل المسلمين... هذه الخيانة فتحت الأبواب لجيش التتار، ولم يحدث أي نوع من المقاومة، وسار الجيش التتري في هدوء وكأنه في نزهة، وبالطبع لم يرتكب في طريقه مذابح لكي لا يلفت أنظار الخلافة في بغداد، ورضي الناس منه بتجنب شره، وخافوا أن يدلوا عليه لكي لا ينتقم منهم بعد ذلك..
خيانة عظمى من كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع أمراء الأناضول..
وخيانة أعظم من بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل..
فبدر الدين لؤلؤ لم يكتف بتسهيل مهمة التتار، وبالسماح لهم باستخدام أراضيه للانتقال والعبور، بل أرسل مع التتار فرقة مساعدة تعينهم على عملية "تحرير العراق" من حكم الخلافة العباسية!!..
ومن الجدير بالذكر أن بدر الدين لؤلؤ قام بهذه الخيانة وهو يبلغ من العمر ثمانين عامًا! وقيل: مائة..!!! وجدير بالذكر أيضًا أنه مات بعد هذه الخيانة بشهور معدودات!!!..
ونسأل الله حسن الخاتمة..
كانت هذه هي تحركات الجيش التتري..
* بغداد قبل السقوط :-
=============
كانت بغداد في ذلك الوقت من أشد مدن الأرض حصانة.. وكانت أسوارها من أقوى الأسوار.. فهي عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، وأنفق على تحصينها مبالغ طائلة وجهود هائلة.. لكن وا أسفاه على المدينة الحصينة!!..
لقد كانت الحصون تحتاج إلى رجال.. ولكن ندر الرجال في ذلك الزمن!..
* الخليفة المستعصم بالله العباسي :-
====================
من على رأس الدولة في الخلافة العباسية؟
إنه الخليفة السابع والثلاثون والأخير من خلفاء بني العباس في بغداد.. إنه "المستعصم بالله "..
اسم كبير "المستعصم بالله ".. ولقب كبير أيضًا: "خليفة المسلمين"..
ولكن أين مقومات الخلافة في "المستعصم بالله "؟..
عندما تقرأ عن صفات الخليفة الذاتية في كتب السير مثل تاريخ الخلفاء للسيوطي، أو البداية والنهاية لابن كثير أو غيرها من الكتب تجد أمرًا عجبًا..
تجد أنهم يصفون رجلًا فاضلًا في حياته الشخصية وفي معاملاته مع الناس.. (رجل يتميز بالطيبة.. مثلما يقولون)..
يقول ابن كثير مثلا:
(كان حسن الصورة جيد السريرة، صحيح العقيدة، مقتديًا بأبيه "المستنصر بالله " في العدل, وكثرة الصدقات، وإكرام العلماء والعباد.. وكان سنيًا على مذهب السلف..)
ولا أدري في الحقيقة ماذا يقصد بأنه كان على مذهب السلف؟!
ألم يكن في مذهب السلف جهاد؟!
ألم يكن في مذهب السلف إعداد للقتال؟!
ألم يكن في مذهب السلف دراسة لأحوال الأرض ولموازين القوى؟!
ألم يكن في مذهب السلف حمية ونخوة لدماء المسلمين التي سالت على مقربة من العراق في فارس وأذربيجان وغيرها؟!
ألم يكن في مذهب السلف وحدة وألفة وترابط؟!
لقد كان الخليفة المستعصم صالحًا في ذاته.. كان رجلًا طيبًا.. لكنه افتقر إلى أمور لا يصح أن يفتقر إليها حاكم مسلم..
- لقد افتقر إلى القدرة على إدارة الأمور والأزمات..


- افتقر إلى كفاءة القيادة..


- افتقر إلى علو الهمة، والأمل في سيادة الأرض والنصر على الأعداء، ونشر دين الله ..


- افتقر إلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في الوقت المناسب..


- افتقر إلى القدرة على تجميع الصفوف، وتوحيد القلوب، ونبذ الفرقة، ورفع راية الوحدة الإسلامية..


- افتقر إلى حسن اختيار أعوانه، فتجمعت من حوله بطانة السوء.. الوزراء يسرقون, والشرطة يظلمون, وقواد الجيش متخاذلون..!!


- افتقر إلى محاربة الفساد، فعم الفساد وطغى.. وكثرت الاختلاسات من أموال الدولة، وعمت الرشاوى، وطغت الوساطة.. وانتشرت أماكن اللهو ولفساد والإباحية والمجون.. بل وأعلن عنها صراحة!! ودعي إليها على رءوس الأشهاد!! الراقصات الخليعات ما كنَّ يختفين في هذا البلد الإسلامي بل يعلنَّ عن أنفسهن صراحة!!..
نعم كان الخليفة محسنًا في أداء شعائر الدين من صلاة وصيام وزكاة.. نعم كان لسانه نظيفًا.. وكان محبًا للفقراء والعلماء.. وكل ذلك جميل في مسؤوليته أمام نفسه، لكن أين مسؤوليته أمام مجتمعه وأمته؟
لقد ضعف الخليفة تمامًا عن حمل مسؤولية الشعب..
لقد كان باستطاعة الخليفة أن يدبر من داخل العراق مائة وعشرين ألف فارس فضلًا عن المشاة والمتطوعين.. وكان الجيش التتري المحاصر لبغداد مائتي ألف مقاتل، وكان هناك أمل كبير في رد الغزاة، لكن الخليفة كان مهزومًا من داخله.. وكان فاقدًا للروح التي تمكنه من المقاومة، كما أنه لم يربّ شعبه على الجهاد، ولم يعلمهم فنون القتال..
وإلا.. فأين معسكرات التدريب التي تعد شباب الأمة ليوم كيوم التتار؟!
أين الاهتمام بالسباحة والرماية وركوب الخيل؟!
أين التجهيز المعنوي للأمة لتعيش حياة الجد والنضال؟!
أنا لست متحاملًا على الخليفة!!..
لقد حكم هذا الخليفة بلاده ما يقرب من ستة عشر عامًا..
إنه لم يفاجأ بالحكم.. ولم يأته الأمر على عجل..
لقد رُبّي ليكون خليفة، وتولى الحكم وهو في سن الحادية والثلاثين.. وكان شابًا ناضجًا واعيًا.. وأعطي الفرصة كاملة لإدارة البلاد.. وظل في كرسي حكمه ستة عشر عامًا كاملة.. فإن كان كفئًا فكان عليه أن يعد العدة، ويقوي من شأن البلاد، ويرفع من هيبتها، ويعلي من شأنها، ويجهز جيشها، ويعز رأيها.. وإن كان غير ذلك فكان عليه ـ إن كان صادقا ـ أن يتنحى عن الحكم.. ويترك الأمر لمن يستطيع.. فهذه ليست مسؤولية أسرة أو قبيلة.. إنما هي مسؤولية أمة.. وأمة عظيمة كبيرة جليلة.. أمة هي خير أمة أخرجت للناس..
لكن الخليفة لم يفعل أيًا من الأمرين.. لا هو قام بالإعداد، ولا هو قام بالتنحي.. فكان لابد أن يدفع الثمن، وكان لابد لشعبه الذي رضي به أن يدفع الثمن معه..
وعلى قدر عظم الأمانة التي ضاعت، سيكون الثمن الذي يدفعه الخليفة ومعه الشعب.. وسترون كيف كان ثمنًا باهظًا!!..
والبلاد لم يكن ينقصها المال اللازم لشراء السلاح أو تصنيعه، بل كانت خزائن الدولة ملأى بالسلاح، لكنه إما سلاح قديم بالٍ أكل عليه الدهر وشرب، وإما سلاح جديد عظيم لم يستخدم من قبل.. ولكن - للأسف الشديد - لم يتدرب عليه أحد..
والنتيجة: جيش الخلافة العباسية جيش هزيل ضعيف، لا يصلح أن يكون جيشًا لإمارة صغيرة، فضلًا عن خلافة عظيمة..
كان هذا شأن الخليفة في بغداد!!

Re: القصة الكاملة لخطط ومؤامرات وغزو التتار لبلاد المسلمين وانهاء الخلافة الإسلامية

مشاركة غير مقروءة بواسطة شيرين مدحت »

* حكومة بغداد :-
==========
أما حكومة بغداد.. فكيف كان حالها؟!... لقد كانت البطانة كالحاكم، وكان الحاكم كالبطانة.. كانت الحكومة - كالجيش - هزيلة ضعيفة مريضة.. مكونة من "أشباح" وزراء! ليس من همهم إلا جمع المال والثروات، وتوسيع نطاق السلطة، والتحكم في رقاب العباد، والتنافس الشريف وغير الشريف فيما بينهم, والتصارع المرير من أجل دار أو منصب أو حتى جارية...! وكان على رأس هذه الوزارة الساقطة رئيس وزراء خائن باع البلاد والعباد، ووالى أعداء الأمة، وعادى أبناءها!!.. لقد كانت تلك الوزارة سيفًا مسلطًا على رقاب وأموال المسلمين.. ولم تكن علاقاتهم بالمسلمين الذين يحمونهم علاقة الإخوة بإخوانهم.. وإنما كانت علاقة السادة بعبيدهم..
* شعب بغداد :-
==========
وماذا عن الشعب في بغداد؟
كيف كانت طبيعته؟ وكيف كانت طموحاته؟!
لا تتوقعوا أنه شعب قد ظُلم بخليفة ضعيف أو هزيل.. فالحكام إفراز طبيعي جدًا جدًا للشعوب..وكما تكونوا يُوَلَّ عليكم.
الشعب في بغداد آنذاك كان شعبًا كبيرًا ضخمًا.. كان يبلغ ثلاثة ملايين نسمة على الأقل، وبذلك تعد بغداد أكثر مدن العالم ازدحامًا في ذلك الوقت، هذا إلى جانب السكان في المدن والقرى المحيطة.. فلم تكن تنقصهم الطاقة البشرية، ولكنهم كانوا شعبًا مترفًا.. ألِف حياة الدعة والهدوء والراحة.. الملتزم فيهم بدينه اكتفى بتحصيل العلم النظري، وحضور الصلوات في المساجد، وقراءة القرآن، ونسي الفريضة التي جعلها رسول الله ذروة سنام الإسلام وهي فريضة الجهاد، وغير الملتزم منهم بدينه -وهم كثير- عاشوا لشهواتهم وملذاتهم، وتنافسوا في ألوان الطعام والثياب، وفي أعداد الجواري والغلمان، وفي أنواع الديار والحدائق والبساتين والدواب، ومنهم من التهى بسماع الأغاني والألحان عن سماع القرآن والحديث، ومنهم من شرب الخمر، ومنهم من سرق المال، ومنهم من ظلم العباد.. وفوق ذلك فإنهم ظلوا قرابة الأربعين سنة يسمعون عن المذابح البشعة التي تتم في إخوانهم المسلمين في أفغانستان وأوزبكستان والتركمنستان وفارس وأذربيجان والشيشان.. سمعوا عن كل هذه المذابح ولم يتحركوا.. وسمعوا عن سبي النساء المسلمات ولم يتحركوا.. وسمعوا عن خطف الأطفال المسلمين ولم يتحركوا.. وسمعوا عن اغتصاب بنات المسلمين ولم يتحركوا.. وسمعوا عن سرقة الأموال، وتدمير الديار، وحرق المساجد، ولم يتحركوا.. بل سمعوا أن خليفتهم "الناصر لدين الله " جد "المستعصم بالله " كان يساعد التتار ضد المسلمين الخوارزمية ولم يتحركوا!!..
سمعوا بكل ذلك وأضعافه ولم يتحركوا..
فلابد أن يكون الجزاء من جنس العمل!!..
سيأتي يوم يذوق فيه هذا الشعب كل ما كان يُفعل في الشعوب المسلمة الأخرى، ولن يتحرك له أحد من المسلمين، بل سيساعدون التتار عليهم كما ساعدوهم على إخوانهم من قبل.. وهكذا تدور الدوائر..
ولا يقولن قائل: إن الشعب مغلوب على أمره.. فالشعوب التي تقبل بكل هذا الانحراف عن نهج الشريعة شعوب لا تستحق الحياة.. الشعوب التي لا تثور إلا من أجل لقمة عيشها شعوب ليس لها أن ترفع رأسها..
ثم أين العلماء؟ وأين الرجال؟ وأين الشباب؟ وأين المجاهدون؟
أين الآمرون بالمعروف؟ وأين الناهون عن المنكر؟
أين الحركات الإصلاحية في هذا المجتمع الفاسد؟
أين الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة، ولأصول الدين؟
أليس في بغداد رجل رشيد؟!
لقد كان هذا هو الوضع في بغداد..
أما خارج بغداد فالوضع كما تعملون.. فهناك جيوش التتار تتحرق شوقًا لتعذيب المسلمين، والمسلمون في استكانة ينتظرون التعذيب!!!!!!!!
* حصار بغداد *
==========
وبدأ الحصار!!
بينما المسلمون على هذه الحالة من التدهور والانحطاط والهزيمة النفسية إذ ظهر فجأة جيش هولاكو قبالة الأسوار الشرقية للمدينة العظيمة "بغداد"، وكان ذلك في يوم 12 محرم من سنة 656هـ.. وبدأ هولاكو في نصب معدات الحصار الثقيلة حول المدينة، وجاء كذلك "كتبغا" بالجناح الأيسر من الجيش ليحيط بالمدينة من الناحية الجنوبية الشرقية.
وارتاع خليفة المسلمين.. وعقد اجتماعاً عاجلاً طارئاً، جمع فيه كبار مستشاريه، وعلى رأسهم بالطبع الوزير الخائن مؤيد الدين العلقمي!..
ماذا نفعل في هذه المصيبة؟ كيف النجاة؟ أين المهرب؟
{فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3].
وبطبيعة الحال فإن مؤيد الدين العلقمي وبطانته كانوا يؤيدون مهادنة التتار وإقامة "مباحثات سلام" معهم، ولا مانع من بعض التنازلات، أو كثير من التنازلات، وكان مؤيد الدين يوسع الفجوة جداً بين إمكانيات التتار وإمكانيات المسلمين، كي لا يبقى هناك أمل في المقاومة.
كان هذا هو الرأي السائد في الاجتماع.. السلام غير المشروط!
لكن الخير لا ينعدم في هذه الأمة..
* حركة الجهاد في بغداد :-
================
لقد قام رجلان من الوزراء وأشارا على الخليفة بحتمية الجهاد.. والجهاد كلمة جديدة على هذا الجيل من أجيال الدولة العباسية.. لكن لا مانع من طرح كل الأفكار وإن كانت "غريبة"!.. قام "مجاهد الدين أيبك" و"سليمان شاه" يحضان على المقاومة.. نعم جاءت الإشارة متأخرة.. بل متأخرة جداً.. لأن زمن الإعداد انتهى منذ فترة، وحان وقت الاختبار، ولكن لعلهما كانا يشيران منذ زمن بأمر الجهاد ولا يسمع لهما أحد.. ومع العلم أن العلاقات كانت متوترة جداً بين مؤيد الدين العلقمي ومجاهد الدين أيبك، وذلك منذ زمن طويل.. ولابد للعلاقات بين رجل خائن ورجل أمين أن تتوتر.. لكن - للأسف - لطالما استمع الخليفة لكلام الخائنين!..
واحتار الخليفة!!..
هواه مع كلام مؤيد الدين العلقمي .. فقلبه لا يقوى على الحروب..
وعقله مع كلام مجاهد الدين أيبك؛ لأن تاريخ التتار لا يشير بأي فرصة للسلام، كما أنه كان يسمع أن الحقوق لا "توهب" وإنما "تؤخذ"..
احتار الخليفة، ثم استقر أخيراً..
لقد استمع - والحمد لله- لكلام العقل.. لقد قرر أن يجاهد.. لكنه متردد.. ضعيف.. لين.. هين ..
والجهاد لا ينفع مع هذه الصفات..
الجهاد ليس قراراً عشوائياً..
لا يوجد مجاهد "بالصدفة"!!..
الجهاد إعداد.. وتربية.. وتضحية.. . ومشوار طويل في طريق الإيمان..
الجهاد ارتقاء إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أن تصل إلى ذروة سنام الإسلام.. ولكن على كل حال "فلنجاهد.." (على سبيل التجربة..!) وسمح الخليفة -للمرة الأولى تقريباً في حياته- باستخدام الجيش!..
وخرجت فرقة هزيلة من الجيش العباسي يقودها "مجاهد الدين أيبك" لتلاقي جيش هولاكو المهول.. وبمجرد خروج الجيش العباسي واستعداده لملاقاة هولاكو جاءت الأخبار إلى "مجاهد الدين أيبك" أن هناك جيشاً تترياً آخر يأتي من جهة الشمال، وهو جيش "بيجو" القادم من أوروبا عبر أراضي تركيا وشمال العراق، وكان ذلك الجيش قد عبر الأراضي العراقية شرق نهر دجلة، حتى إذا وصل إلى الموصل عبر نهر دجلة إلى الناحية الغربية منه، وسار في الأراضي المحصورة بين نهري دجلة والفرات حتى اقترب من بغداد، وأصبح على بعد خمسين كيلومترًا فقط منها، وعند هذه المنطقة في شمال بغداد وصلت الأخبار إلى "مجاهد الدين أيبك"..
أدرك "مجاهد الدين أيبك" أن هذا الجيش لو وصل إلى بغداد فسوف يطوقها من الناحية الشمالية والغربية، وبذلك سيطبق الحصار تماماً على العاصمة الإسلامية، ومن هنا فكر "مجاهد الدين أيبك" بسرعة أن يتجه بجيشه شمالاً بين نهري دجلة والفرات لمقابلة جيش "بيجو"، والتقى فعلاً بجيش التتار عند منطقة "الأنبار"، وهي المنطقة التي شهدت انتصاراً خالداً قبل ذلك بأكثر من ستمائة سنة على يد البطل الخالد "خالد بن الوليد" رضي الله عنه، ولكن في هذه المرة - للأسف - لم يكن الانتصار حليف المسلمين.. لقد بدا "بيجو" وكأنه أعرف بالمنطقة من أهلها، فبدأ يُظهر الانسحاب، ويستدرج خلفه جيش المسلمين، حتى أتى به إلى منطقة مستنقعات قريبة من نهر الفرات، ثم أرسل المهندسين التتر لقطع السدود المقامة على نهر الفرات في هذه المنطقة، وذلك ليقطع خط الهروب على الجيش العباسي، ثم حاصر "بيجو" الجيش العراقي، وبدأ في عملية إبادة واسعة النطاق، واستطاع "مجاهد الدين أيبك" بفرقة صغيرة جداً من الجيش العباسي أن ينسحب بحذاء النهر جنوباً حتى عاد إلى بغداد، ولكن - للأسف - هلك معظم الجيش العباسي في منطقة الأنبار!..
تمت هذه الموقعة الأليمة غير المتكافئة في التاسع عشر من المحرم، أي بعد أسبوع من ظهور هولاكو أمام الأسوار الشرقية لبغداد، وتقدم "بيجو" مباشرة ولم يضيع وقتاً حتى وصل إلى بغداد من ناحيتها الشمالية في اليوم التالي مباشرة، ثم التف حول بغداد ليضرب عليها الحصار من جهتها الغربية، وبذلك وضعت بغداد بين فكي كماشة: "هولاكو" من الشرق، و"بيجو" من الغرب.. وازدادت حراجة الموقف جداً، واستحكم الحصار حول عاصمة الخلافة!..
والخليفة ـ ابن الخلفاء والسلاطين ـ ما تخيل أنه يحصر هذا الحصار أبداً.. وشل عقله تماماً عن التفكير!!..
وجاء مؤيد الدين العلقمي ليستغل الفرصة..
أيها الخليفة.. لابد أن نجلس مع التتار على "طاولة المفاوضات"..
ولكن الخليفة يدرك أنه إذا جلس قوي شديد القوة مع ضعيف شديد الضعف فإن هذا لا يعني "مفاوضات" أبداً، وإنما يعني "استسلامًا".. وفي الاستسلام عادة يقبل المهزوم بشروط المنتصر دون تعديل أو اعتراض..
ومع ذلك وافق الخليفة المسكين -وهو مطأطئ الرأس- على الاستسلام.. أقصد على "المفاوضات!"..
* رسولا الخليفة المستعصم إلى هولاكو :-
========================
قرر الخليفة المستعصم بالله العباسي المسكين أن يرسل رجلين ليقوما عنه بالمفاوضات.. فمن أرسل؟!
لقد أرسل "مؤيد الدين العلقمي الشيعي" والذي يُكن في قلبه كل الحقد للخلافة العباسية!!..
وأرسل معه "ماكيكا.." البطريرك النصراني في بغداد!!!!..
وهكذا، فالوفد الرسمي الممثل للخلافة الإسلامية العباسية العريقة في المفاوضات مع التتار لا يضم إلا رجلين فقط:
أحدهما شيعي والآخر نصراني!!!..
ولا تعليق!!..
ودارت المفاوضات السرية جداً بين هولاكو وبين ممثلي الخلافة العباسية..
وأعطيت الوعود الفخمة من هولاكو لكليهما إن ساعداه على إسقاط بغداد، وأهم هذه الوعود أنهما سيكونان أعضاء في "مجلس الحكم" الجديد، والذي سيحكم العراق بعد احتلالها من التتار.. أقصد بعد "تحريرها" من الخليفة!!!
وبالطبع كان رد فعل ممثلي الخلافة العباسية معروفاً..
إن كليهما يتحرق شوقاً لإسقاط الخلافة العباسية الإسلامية ولو بدون ثمن، فما بالك لو كانت هناك وعود فخمة بمناصب وسيطرة وأموال.. ومن الذي يعد؟ إنه "هولاكو" سيد الموقف في كل المنطقة..
وعاد المبعوثان الساميان من عند هولاكو إلى الخليفة يحملان له طلباً عجيباً من الزعيم التتري.. لقد سمع هولاكو بأمر المسلمين المتشددين "المتطرفين" في داخل بغداد، والذين ينادون بشيء خطير.. ينادون "بالجهاد".. هذه الدعوة إلى الجهاد ستنسف كل مباحثات "السلام".. فعلى خليفة المسلمين أن يسلم إلى هولاكو رؤوس الحركة الإسلامية في بغداد.. وعليه أن يسلم - على وجه التحديد - "مجاهد الدين أيبك" و "سليمان شاه" اللذين كانا يتزعمان فكرة الجهاد والمقاومة..
وهنا تتضارب الروايات.. ولا ندري إن كان سلمهما فعلاً أم لم يسلمهما.. لكن وضح للجميع الغرض التتري.. ووضحت رغبة أعداء الإسلام دائماً في قمع أي دعوة للمقاومة باسم الدين..
الموقف يزداد صعوبة.. والأزمة تزداد شدة..
والرسل لا تنقطع بين هولاكو والخليفة..
والرسل طبعاً هم أهل الثقة عند الخليفة: "مؤيد الدين العلقمي الشيعي"، والبطريرك النصراني "ماكيكا".. !!!
وجاءت نتائج المفاوضات "مرضية جداً" كما صور ابن العلقمي للخليفة.. فلقد جاء ابن العلقمي ببعض الوعود من هولاكو، واعتبر هذه الوعود نصراً سياسياً كبيراً، وفي نفس الوقت كانت هناك بعض الشروط "البسيطة" التي على الخليفة أن ينفذها..
* مفاوضات هولاكو .. وعود وشروط :-
=======================
1- إنهاء حالة الحرب بين الدولتين وإقامة علاقة سلام دائم..
2- يتم الزواج بين ابنة هولاكو الزعيم التتري الذي سفك دماء مئات الآلاف من المسلمين بابن الخليفة المسلم "المستعصم بالله "..
3- يبقى "المستعصم بالله " على كرسي الحكم..
4- يعطي الأمان لأهل بغداد جميعاً..
***هذه هي الوعود، على أن تكون هذه الوعود في مقابل الشروط الآتية :-
1- تدمير الحصون العراقية..
2- ردم الخنادق..
3- تسليم الأسلحة..
4- الموافقة على أن يكون حكم بغداد تحت رعاية أو مراقبة تترية..
وختم هولاكو مباحثاته مع المبعوثين الساميين بأنه ما جاء إلى هذه البلاد إلا لإرساء قواعد العدل والحرية والأمان.. وبمجرد أن تستقر هذه الأمور -وفق الرؤية التترية- فإنه سيعود إلى بلاده، ويترك العراقيين يضعون دستورهم، ويديرون شئون بلادهم بأنفسهم!..
وتجددت الآمال في نفس الخليفة!!..
هل يصدق هولاكو في وعوده؟!
إن هناك شكاً كبيراً في قلبه..
ثم إن الشروط قاسية جداً، فهو سيتخلص تقريباً من كل إمكانية للمقاومة والجهاد.. ولكنه - على الجانب الآخر - قد يظل حاكماً للبلاد.. نعم تحت رعاية مغولية تترية.. أو تحت قهر مغولي تتري.. لكنه - في النهاية - سيظل جالساً على كرسي الحكم، هذا طبعاً إن صدق هولاكو السفاح!..
ولكن هذا احتلال!.. أيقبل به؟
ولماذا لا يقبل به؟! إن مقربيه يقولون له: إن هذا في السياسة يسمونه: "واقعية"..!! وهو لو رفض التسليم، وفتحت أبواب بغداد بالقوة فإنه حتماً سيموت.. أما إذا سلم نفسه إلى هولاكو السفاح فهناك احتمال - ولو بسيط - للنجاة بالروح!!..
نعم سيعيش ذليلاً.. ولكنه في النهاية قد يعيش..
نعم سيعيش وضيعاً.. لكنه في النهاية قد يعيش..
نعم سيبيع كل شيء بثمن بخس.. لكنه في النهاية قد يعيش..
الخليفة ما زال متردداً..
والشعب الضخم من ورائه يعيش نفس التردد..
نداء الجهاد لا ينبعث إلا من بعض الأفواه القليلة جداً.. أما عامة الناس فقد انخلعت قلوبهم لحصار التتار..
لقد عظمت الدنيا جداً في عيونهم فاستحال في تقديرهم أن يضحوا بها..
لقد كثر الخبث فعلاً في بغداد.. وإذا كثر الخبث فالهلكة قريبة جداً!!..
واحتاج الخليفة لبعض الوقت للتفكير.. فالقرار صعب جداً.. ويحتاج إلى الاستشارة وقد يستخير!! لكن - على الناحية الأخرى - فإن هولاكو ليس عنده وقت يضيعه.. لأن الجيوش المغولية التترية الرابضة حول بغداد تتكلف كل يوم آلاف الدنانير.. والحصار في شهر محرم سنة 656 هـ، وهذا يوافق شهر يناير من سنة 1258م.. والجو شديد البرودة.. هذا فوق أنه يتشوق لرؤية بغداد الجميلة من الداخل!..
ترى ماذا فعل هولاكو؟ هل سينتظر رد الخليفة؟!!!!!!


* سقوط بغداد *
===========
* القصف المغولي التتري على بغداد :-
======================
لم ينتظر هولاكو وقتاً طويلاً.. ولم يعط لصديقه الخليفة ما يريده من الوقت للتفكير المتعمق، ولكنه قرر أن يجبره على سرعة التفكير، وذلك عن طريق بدأ إطلاق القذائف النارية والحجرية على بغداد، مستخدماً في ذلك أحدث التقنيات العسكرية في ذلك الزمان.. وبدأ القصف التتري المروع لأسوار وحصون وقصور وديار بغداد، وبدأت المدينة الآمنة تُروع للمرة الأولى تقريباًً في تاريخها..
بدأ القصف التتري في الأول من صفر سنة 656هـ، واستمر أربعة أيام متصلة.. ولم تكن هناك مقاومة تذكر..
* مصرع عرفة :-
===========
يذكر ابن كثير -رحمه الله - في البداية والنهاية موقفاً "بسيطاً" لا يعلق عليه، ولكنه حمل بالنسبة لي معاني كثيرة..
يقول ابن كثير: "وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت "تلعب" بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت تسمى "عرفة"، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي "ترقص" بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: "إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم"، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة!!"..
وعجيب أن يذكر ابن كثير هذا الخبر دون تعليق!!..
والحدث -وإن كان ظاهره بسيطاً عابراً- إلا أنه يحمل معانٍ هائلة..
لقد تمكنت الدنيا تماماً من قلوب الناس في بغداد، وأولهم الخليفة.. فها هو الخليفة الموكل إليه حماية هذه الأمة في هذا الموقف الخطير يسهر هذه السهرة اللاهية.. نعم قد تكون الجارية ملك يمينه.. وقد تكون حلالاً له.. وإذا لم يكن هناك من يشاهدها غيره فلا حرج من أن يشاهدها الخليفة وهي ترقص.. لكن أين العقل في رأس الخليفة؟! العاصمة الإسلامية للخلافة محاصرة، والموت على بعد خطوات، والمدفعية المغولية تقصف، والسهام النارية تحرق، والناس في ضنك شديد، والخليفة يستمتع برقص الجواري!!..
* أين العقل؟ وأين الحكمة؟!
================
لقد أصبح رقص الجواري في الدماء، فصار كالطعام والشراب.. لابد منه حتى في وقت الحروب.. ولا أدري حقيقة كيف كانت نفسه تقبل أن ينشغل بمثل هذه الأمور، والبلاد والشعب وهو شخصياً في مثل هذه الضائقة..
وما أبلغ العبارة التي كتبها التتار على السهم الذي أطلق على دار الخلافة وقتل الراقصة المسكينة إذ قالوا: "إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم"، فالله عز وجل قد قضى على بغداد بالهلكة في ذلك الوقت، وأذهب فعلاً عقل الخليفة وعقول أعوانه وشعبه، ولا شك أن هذه العبارات المنتقاة بدقة كانت نوعاً من الحرب النفسية المدروسة التي كان يمارسها التتار بمهارة على أهل بغداد..
ويكفي كدليل على قلة عقل الخليفة أنه بعد هذه "الكارثة" (كارثة قتل الراقصة) لم يأمر الشعب بالتجهز للقتال، فقد وصل الخطر إلى داخل دار الخلافة، وإنما أمر فقط بزيادة الاحتراز، ولذلك كثرت الستائر حول دار الخلافة لحجب الرؤية ولزيادة الوقاية وستر الراقصات!..
ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
* مفاوضات النهاية :-
=============
ظل التتار على قصفهم مدة أربعة أيام من أول صفر إلى الرابع منه سنة 656 هجرية، وفي يوم الرابع من صفر بدأت الأسوار الشرقية تنهار.. ومع انهيار الأسوار الشرقية انهار الخليفة تماماً..
لقد بقيت لحظات قليلة جداً في العمر..
هنا لجأ الخليفة إلى صديقه الخائن مؤيد الدين العلقمي، وسأله ماذا يفعل؟ وأشار عليه الوزير أن يخرج لمقابلة هولاكو بنفسه لكي يجري معه المفاوضات..
وذهبت الرسل إلى هولاكو تخبره بقدوم الخليفة، فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة، ولكن ليس وحده، بل عليه أن يأتي معه بكبار رجال دولته، ووزرائه، وفقهاء المدينة، وعلماء الإسلام، وأمراء الناس والأعيان، حتى يحضروا جميعاً المفاوضات، وبذلك تصبح المفاوضات ـ كما يزعم هولاكو ـ ملزمة للجميع..
ولم يكن أمام الخليفة الضعيف أي رأي آخر..
وجمع الخليفة كبار قومه، وخرج بنفسه في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو خارج الأسوار الشرقية لبغداد.. خرج وقد تحجرت الدموع في عينيه، وتجمدت الدماء في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه، وتلاحقت أنفاسه..
لقد خرج الخليفة ذليلاً مهيناً، وهو الذي كان يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، وكان أجداده الأقدمون يقودون الدنيا من تلك الدار التي خرج منها الخليفة الآن..
وكان الوفد كبيراً يضم سبعمائة من أكابر بغداد، وكان فيه بالطبع وزيره مؤيد الدين بن العلقمي، واقترب الوفد من خيمة هولاكو، ولكن قبل الدخول على زعيم التتار اعترض الوفد فرقة من الحرس الملكي التتري، ولم يسمحوا لكل الوفد بالدخول على هولاكو، بل قالوا: إن الخليفة سيدخل ومعه سبعة عشر رجلاً فقط، أما الباقون فسيخضعون - كما يقول الحرس - للتفتيش الدقيق.. ودخل الخليفة ومعه رجاله، وحجب عنه بقية الوفد.. ولكنهم لم يخضعوا لتفتيش أو غيره.. بل أخذوا جميعاً....... للقتل!!!..
قُتل الوفد بكامله إلا الخليفة والذين كانوا معه.. قُتل كبراء القوم، ووزراء الخلافة، وأعيان البلد، وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية..
ولم يُقتل الخليفة؛ لأن هولاكو كان يريد استخدامه في أشياء أخرى..
وبدأ هلاكو يصدر الأوامر في عنف وتكبر..
واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله..
اكتشف الخليفة ما كان واضحاً لكل الخلق.. ولكنه لم يره إلا الآن.. لقد اكتشف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 10].
واكتشف أيضاً أن الحق لابد له من قوة تحميه.. فإن تركت حقك دون حماية فلا تلومن إلا نفسك.. لكن -وللأسف- جاء هذا الاكتشاف متأخراً جداً..
* وبدأت الأوامر الصارمة تخرج من السفاح هولاكو :-
===============================
1ـ على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بإلقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة .. وقد كان ذلك أمراً سهلاً؛ لأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون حمل السلاح، ولا يرغبون في ذلك أصلاً..
2ـ يقيد الخليفة المسلم، ويساق إلى المدينة يرسف في أغلاله، وذلك لكي يدل التتار على كنوز العباسيين، وعلى أماكن الذهب والفضة والتحف الثمينة، وكل ما له قيمة نفيسة في قصور الخلافة وفي بيت المال..
3ـ يتم قتل ولدي الخليفة أمام عينه!! فقُتل الولد الأكبر "أحمد أبو العباس"، وكذلك قُتل الولد الأوسط "عبد الرحمن أبو الفضائل".. ويتم أسر الثالث مبارك أبو المناقب، كما يتم أسر أخوات الخليفة الثلاث: فاطمة وخديجة ومريم..
4ـ أن يستدعى من بغداد بعض الرجال بعينهم، وهؤلاء هم الرجال الذين ذكر ابن العلقمي أسماءهم لهولاكو، وكانوا من علماء السنة، وكان ابن العلقمي يكن لهم كراهية شديدة، وبالفعل تم استدعاؤهم جميعاً، فكان الرجل منهم يخرج من بيته ومعه أولاده ونساؤه فيذهب إلى مكان خارج بغداد عينه التتار بجوار المقابر، فيذبح العالم كما تذبح الشياه، وتؤخذ نساؤه وأولاده إما للسبي أو للقتل.!!. لقد كان الأمر مأساة بكل المقاييس!!
ذُبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي (العالم الإسلامي المعروف)، وذبح أولاده الثلاثة عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وذُبح المجاهد مجاهد الدين أيبك وزميله سليمان شاه، واللذان قادا الدعوة إلى الجهاد في بغداد، وذُبح شيخ الشيوخ ومؤدب الخليفة ومربيه "صدر الدين علي بن النيار"، ثم ذُبح بعد هؤلاء خطباء المساجد والأئمة وحملة القرآن!!..
كل هذا والخليفة حي يشاهد، وأنا لا أتخيل كمّ الألم والندم والخزي والرعب الذي كان يشعر به الخليفة، ولا شك أن أداء الخليفة في إدارته للبلاد كان سيختلف جذرياً لو أنه تخيل - ولو للحظات - أن العاقبة ستكون بهذه الصورة، ولكن ليس من سنة الله عز وجل أن تعود الأيام، ثم إن الخليفة رأى أن هولاكو يتعامل تعاملاً ودياً مع ابن العلقمي الوزير الخائن، وأدرك بوضوح العلاقة بينهما، وانكشفت أمامه الحقائق بكاملها، وعلم النتائج المترتبة على توسيد الأمر لغير أهله، ولكن كل هذه الاكتشافات كانت متأخرة جداً..
* تدمير بغداد :-
==========
وبعد أن ألقى أهل المدينة السلاح، وبعد أن قتلت هذه الصفوة، وبعد أن انساب جند هولاكو إلى شوارع بغداد ومحاورها المختلفة.. أصدر السفاح هولاكو أمره الشنيع "باستباحة بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية".. والأمر بالاستباحة يعني أن الجيش التتري يفعل فيها ما يشاء.. يقتل.. يأسر.. يسبي.. يرتكب الفواحش.. يسرق.. يدمر.. يحرق.. كل ما بدا لهؤلاء الهمج أن يفعلوه فليفعلوه!!..
وانطلقت وحوش التتار الهمجية تنهش في أجساد المسلمين..
واستبيحت مدينة بغداد العظيمة..
اللهم لا حول ولا قوة إلا بك..



كم من الجيوش خرجت لتجاهد في سبيل الله من هذه المدينة!!..
كم من العلماء جلسوا يفقهون الناس في دينهم في هذه المدينة!!..
كم من طلاب العلم شدوا الرحال إلى هذه المدينة!!..
أواه يا بغداد! .. لم يبق لك أحد!..
أين خالد بن الوليد؟
أين المثنى بن حارثة؟
أين القعقاع بن عمرو؟
أين النعمان بن مقرن؟
أين سعد بن أبي وقاص؟
أين الحمية في صدور الرجال؟!
أين النخوة في أبناء المسلمين؟!
أين العزة والكرامة؟!
أين الذين يطلبون الجنة؟
أين الذين يقاتلون في سبيل الله ؟
بل أين الذين يدافعون عن أعراضهم ونسائهم وأولادهم وديارهم وأموالهم؟
أين؟!!!!!!!!!!!!!!!
لا أحد!!..
لقد فتحت بغداد أبوابها على مصاريعها..
لا مقاومة.. لا حراك..
لم يبق في بغداد رجال.. ولكن فقط أشباه رجال!!..
استبيحت المدينة العظيمة بغداد..
استبيحت مدينة الإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل..
استبيحت مدينة الرشيد.. الذي كان يحج عاماً ويجاهد عاماً..
استبيحت مدينة المعتصم.. فاتح عمورية ببلاد الروم..
استبيحت عاصمة الإسلام على مدار أكثر من خمسة قرون!!..
وفعل التتار في المدينة ما لا يتخيله عقل!!..
لقد بدأ التتار يتعقبون المسلمين في كل شارع أو ميدان.. في كل بيت أو حديقة.. في كل مسجد أو مكتبة.. واستحر القتل في المسلمين.. والمسلمون لا حول لهم ولا قوة، فكان المسلمون يهربون ويغلقون على أنفسهم الأبواب، فيحرق التتار الأبوب أو يقتلعونها، ويدخلون عليهم، فيهرب المسلمون إلى أسطح الديار، فيصعد وراءهم التتار، ثم يقتلونهم على الأسطح، حتى سالت الدماء بكثرة من ميازيب المدينة (والميازيب هي قنوات تجعل في سقف المنازل لينزل منها ماء المطر، ولا يتجمع فوق الأسطح)..
ولم يقتصر التتار على قتل الرجال الأقوياء فقط.. إنما كانوا يقتلون الكهول والشيوخ، وكانوا يقتلون النساء إلا من استحسنوه منهن؛ فإنهم كانوا يأخذونها سبياً.. بل وكانوا يقتلون الأطفال.. بل كانوا يقتلون الرضع!!..
وجد جندي من التتار أربعين طفلاً حديثي الولادة في شارع جانبي، وقد قُتلت أمهاتهم، فقتلهم جميعاً!!.
قلوب كالحجارة.. أو أشد قسوة!!..
وتزايد عدد القتلى في المدينة بشكل بشع..
ومر اليوم الأول والثاني والثالث والعاشر.. والقتل لا يتوقف.. والإبادة لا تنتهي..
ولا دفاع.. ولا مقاومة.. فقد دخل في روع الناس أن التتار لا يهزمون.. ولا يجرحون.. بل إنهم لا يموتون!!..
كل هذا والخليفة حي يشاهد.. وهذا هو العذاب بعينه..
هل تتخيلون الخليفة وهو يشاهد هذه الأحداث؟!
هل تتخيلون الخليفة ابن الخلفاء.. العظيم ابن العظماء.. وهو يقف مقيداً يشاهد كل هذه المآسي؟!
- قتل ولدان من أولاده..
- أسر ابنه الثالث..
- أسرت أخواته الثلاث..
- قتل معظم وزرائه..
- قتل كل علماء بلده وخطباء مساجده وحملة القرآن في مدينته..
- اكتشف خيانة أقرب المقربين إليه "مؤيد الدين العلقمي الشيعي.."
- دمر جيشه بكامله..
- نهبت أمواله وثرواته وكنوزه ومدخراته..
- استبيحت مدينته وقتل من شعبه مئات الآلاف أمام عينيه..
- أحرقت العاصمة العظيمة لدولته، ودمرت مبانيها الجميلة..
- انتشر التتار بوجوههم القبيحة الكافرة الكالحة في كل بقعة من بقاع بغداد.. فكانوا كالجراد الذي غطى الأرض الخضراء، فتركها قاعاً صفصفاً..
- وضعت الأغلال في عنقه وفي يده وفي قدمه.. وسيق كما يساق البعير..
لقد شاهد الخليفة كل ذلك بعينيه..
وتخيل مدى الحسرة والألم في قلبه..
لا شك أنه قال مراراً: "يا ليتني مت قبل هذا، وكنت نسياً منسياً"..
لا شك أنه نادم {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29]...
ومر على ذهنه شريط حياته في لحظات..
ولا شك أنه أخذ يراجع نفسه ولسان حاله يقول: "رب ارجعون! لعلي أعمل صالحاً فيما تركت"..
يا ليتني جهزت الجيوش وأعددتها وقويتها!!..
يا ليتني حفزت الأمة على الجهاد في وقت أحيطت فيه بأعداء الدين من كل مكان..
يا ليتني رفعت قيمة الإسلام في عيون الناس وفي قلوبهم، حتى يصبح الإسلام عندهم أغلى من أموالهم وحياتهم..
يا ليتني تركت اللهو واللعب والحفلات والتفاهات..
ليتني ما عشت لجمع المال..
ليتني ما استكثرت من الجواري.. وليتني ما سمعت المعازف..
ليتني اخترت بطانة الخير..
ليتني عظمت من العلماء وتركت الأدعياء..
ليتني.. ليتني.. ليتني....
لكن القيود الثقيلة المسلسلة في عنقه ويديه وساقيه ردته إلى أرض الواقع.. ليعلم أن الزمان لا يعود أبداً إلى الوراء..
عن عبد الله بن عمر { أن رسول الله قال:" إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ (نوع من الربا)، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ (العمل في رعي المواشي)، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ (أي رضيتم بالاشتغال بالزراعة، والمقصود عملتم في أعمال الدنيا أياً كانت في وقت الجهاد المتعين)، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ "[1].
لقد عمل أهل بغداد في الزراعة والتجارة والكتابة والصناعة.. بل وفي العلم والتعلم.. وتركوا الجهاد في سبيل الله .. فكانت النتيجة هذا الذل الذي رأيناه..
وهذه دروس قيمة جداً إلى كل مسلم.. حاكم أو محكوم.. عالم أو متعلم.. كبير أو صغير.. رجل أو امرأة...
ـ لابد للحق من قوة تحميه..
ـ الحقوق لا تُستجدى ولكن تؤخذ.. ويُبذل في سبيلها الغالي والثمين..
ـ ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا..
ـ أعداء الأمة لا عهد لهم..

Re: القصة الكاملة لخطط ومؤامرات وغزو التتار لبلاد المسلمين وانهاء الخلافة الإسلامية

مشاركة غير مقروءة بواسطة شيرين مدحت »

* الخليفة المستعصم بالله والموت رفسًا : -
========================
وسيق الخليفة "المستعصم بالله " إلى خاتمته الشنيعة.. بعد أن رأى كل ذلك في عاصمته، وفي عقر دار خلافته، بل وفي عقر بيته..
أصدر السفاح هولاكو الأمر بالإجهاز على الخليفة المسكين.. ولكن أشار على هولاكو بعض أعوانه بشيء عجيب..! لقد قالوا: لو سالت دماء الخليفة المسلم على الأرض، فإن المسلمين سيطلبون ثأره بعد ذلك، ولو تقادم الزمان، ولذلك يجب قتل الخليفة بوسيلة لا تسيل فيها الدماء.. ولا داعي لاستعمال السيف..
وهذا بالطبع نوع من الدجل .. لأنه من المفترض أن يطلب المسلمون دم خليفتهم، بل ودماء المسلمين جميعاً الذين قتلهم هولاكو وجنوده بصرف النظر عن طريقة قتلهم..
لكن هولاكو استمع لهم.. وسبحان الله !!.. كأن الله عز وجل قد أراد ذلك، حتى يموت الخليفة بصورة مخزية ما حدثت مع خليفة قبله، وما سمعنا بها مع أي من ملوك أو أمراء الأرض.. مسلمين كانوا أو غير مسلمين..
لقد أمر هولاكو أن يقتل الخليفة "رفساً بالأقدام"!!!..
وبالفعل وضع الخليفة العباسي على الأرض، وبدأ التتار يرفسونه بأقدامهم..
وتخيل الرفس والركل بالأقدام إلى الموت!!..
أي ألم.. وأي إهانة.. وأي ذل!!..
لقد ظلوا يرفسونه إلى أن فارقت روحه الجسد..
وإنا لله.. وإنا إليه راجعون..
إن بغداد لم تسقط فقط!!
إنما سقط أخر خلفاء بني العباس في بغداد..
وسقط معه شعبه بكامله!..
وكان ذلك في اليوم العاشر من فتح بغداد لأبوابها.. في يوم 14 صفر سنة 656هـ..
ولم تنته المأساة بقتل الخليفة.. وإنما أمر هولاكو - لعنه الله - باستمرار عملية القتل في بغداد.. فهذه أضخم مدينة على وجه الأرض في ذلك الزمان.. ولابد أن يجعلها التتار عبرة لمن بعدها..
واستمر القتل في المدينة أربعين يوماً كاملة منذ سقوطها..
وتخيلوا كم قتل في بغداد من المسلمين؟!
لقد قتل هناك ألف ألف مسلم (مليون مسلم..!!) ما بين رجال ونساء وأطفال!!!..
ألف ألف مسلم قتلوا في أربعين يوماً فقط!!..
وتخيل أمة فقدت من أهلها مليوناً في غضون أربعين يوماً فقط..
كارثة رهيبة!..
نذكر ذلك لنعلم أن المصائب التي يلقاها المسلمون الآن -مهما اشتدت- فهي أهون من مصائب رهيبة سابقة.. وسنرى أن المسلمين سيقومون بفضل الله من هذه المصيبة.. لنعلم أننا -بإذن الله - على القيام من مصائبنا أقدر..
وللعلم فإنه لم ينج من القتل في بغداد إلا الجالية النصرانية فقط!..!
وبعد ذلك اتجه مجرمو المغول التتار إلى عمل إجرامي لا ينم إلا على حقد أكل قلوبهم على كل ما هو حضاري في بلاد المسلمين..
* المغول وحرق مكتبة بغداد *
==================
بينما كان فريق من التتار يعمل على قتل المسلمين وسفك الدماء اتجه فريق آخر من التتار لعمل إجرامي آخر.. عمل ليس له مبرر إلا أن التتار قد أكل الحقد قلوبهم على كل ما هو حضاري في بلاد المسلمين.. لقد شعر التتار بالفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين المسلمين؛ فالمسلمون لهم تاريخ طويل في العلوم والدراسة والأخلاق.. عشرات الآلاف من العلماء الأجلاء في كافة فروع العلم.. الديني منها والدنيوي.. لقد أثرى هؤلاء العلماء الحضارة الإسلامية بملايين المصنفات.. بينما التتار لا حضارة لهم.. ولا أصل لهم.. إنهم أمة لقيطة.. نشأت في صحراء شمال الصين، واعتمدت على شريعة الغاب في نشأتها.. لقد قاتلت هذه الأمة كما تقاتل الحيوانات.. بل عاشت كما تعيش الحيوانات.. ولم ترغب مطلقاً في إعمار الأرض أو إصلاح الدنيا.. لقد عاشوا حياتهم فقط للتخريب والتدمير والإبادة.. شتان بين هذه الأمة وبين أمة الإسلام، بل شتان بين أي أمة من أمم الأرض وأمة الإسلام.. وهذا الانهيار الذي رأيناه في تاريخ بغداد من المستحيل أن يمحو التاريخ العظيم لهذه الأمة العظيمة..
* ماذا فعل مجرمو التتار؟!
===============
لقد اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير وإحراق مكتبة بغداد العظيمة.. وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن.. وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام.. جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.. من علوم شرعية كتفسير القرآن والحديث والفقه والعقيدة والأخلاق، ومن علوم حياتية كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وعلوم الأرض، ومن علوم إنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة وغير ذلك.. هذا كله بالإضافة إلى ملايين الأبيات من الشعر، وعشرات الآلاف من القصص والنثر.. فإن أضفت إلى كل ما سبق الترجمات المختلفة لكل العلوم، الأجنبية سواء اليونانية أو الفارسية أو الهندية أو غير ذلك علمت أنك تتحدث عن معجزة حقيقية من معجزات ذلك الزمان..
لقد كانت مكتبة بغداد مكتبة عظيمة بكل المقاييس.. ولم يقترب منها في العظمة إلا مكتبة قرطبة الإسلامية في الأندلس.. وسبحان الله !!.. لقد مرت مكتبة قرطبة بنفس التجربة التي مرت بها مكتبة بغداد!!!..
عندما سقطت قرطبة في يد نصارى الأندلس سنة 636 هـ (قبل سقوط بغداد بعشرين سنة فقط!!) قاموا بحرق مكتبة قرطبة تماماً.. وقام بذلك أحد قساوسة النصارى بنفسه.. وكان اسمه "كمبيس"، وحرق كل ما وقعت عليه يده من كتب بذلت فيها آلاف الأعمار وآلاف الأوقات، وأنفق في سبيل كتابتها الكثير من المال والعرق والجهد..
حروبهم هي حروب على الحضارة.. وحروب على المدنية.. وحروب على الإسلام.. بل هي حروب على الإنسانية كلها..
ولكن قبل أن نتحدث عن ماذا فعل التتار بمكتبة بغداد تعالوا نتحدث - ولو قليلاً - عن مكتبة بغداد..
* مكتبة بغداد :-
==========
هي أعظم دور العلم في الأرض - بلا أدنى مبالغة - قرابة خمسة قرون متتالية..
أسسها الخليفة العباسي المسلم هارون الرشيد –رحمه الله - والذي حكم الدولة الإسلامية من سنة 170هـ إلى سنة 193 هـ، ثم ازدهرت المكتبة جداً في عهد المأمون خليفة المسلمين من سنة 198 هجرية إلى سنة 218 هجرية.. وما زال الخلفاء العباسيون بعدهم يضيفون إلى المكتبة الكتب والنفائس حتى صارت داراً للعلم لا يُتخيل كمّ العلم بداخلها!!..
نحن نتحدث عن دار للعلم حوت ملايين المجلدات في هذا الزمن السحيق!!..
ملايين الكتب في مكتبة واحدة في زمان ليس فيه طباعة!!..
وكان هذا هو الأمر المتكرر والطبيعي في معظم حواضر الإسلام.. ولا ندري بالتحديد كم عدد الكتب في هذه المكتبة الهائلة.. وإن كانت تقدر حقاً بالملايين.. ويكفي أن مكتبة طرابلس بلبنان -والتي لم تكن تقارن أبداً بمكتبة بغداد- قد أحرق الصليبيون الأوروبيون فيها "ثلاثة ملايين" مجلد عندما وقعت في أيديهم!!.. فتخيل كم كان عدد المجلدات في مكتبة بغداد!!
كانت مكتبة بغداد تشتمل على عدد ضخم من الحجرات، وقد خصصت كل مجموعة من الحجرات لكل مادة من مواد العلم، فهناك حجرات معينة لكتب الفقه، وحجرات أخرى لكتب الطب، وهناك حجرات ثالثة لكتب الكيمياء ورابعة للبحوث السياسية وهكذا..
وكان في المكتبة المئات من الموظفين الذين يقومون على رعايتها، ويواظبون على استمرار تجديدها.. وكان هناك "النساخون" الذين ينسخون من كل كتاب أكثر من نسخة، وكان هناك "المناولون" الذين يناولون الناس الكتب من أماكنها المرتفعة، وكان هناك "المترجمون" الذين يترجمون الكتب الأجنبية، وكان هناك "الباحثون" الذين يبحثون لك عن نقطة معينة من نقاط العلم في هذه المكتبة الهائلة!..
وكانت هناك غرف خاصة للمطالعة، وغرف خاصة للمدارسة وحلقات النقاش والندوات العلمية، وغرف خاصة للترفيه والأكل والشرب، بل وكانت هناك غرف للإقامة لطلاب العلم الذين جاءوا من مسافات بعيدة!..
نحن إذن نتحدث عن جامعة هائلة.. وليست مجرد مكتبة من المكتبات..
لقد حوت هذه المكتبة عصارة الفكر الإنساني في الدنيا بأسرها..
لقد كان المأمون يشترط على ملك الروم في معاهداته معه بعد انتصارات المأمون المشهورة عليه أن يسمح للمترجمين المسلمين بترجمة الكتب التي في مكتبة القسطنطينية.. وكان لخلفاء بني العباس موظفون يجوبون الأرض بحثاً عن الكتب العلمية بأي لغة لتترجم وتوضع في مكتبة بغداد بعد أن يتولاها علماء المسلمين المتخصصون بالنقد والتحليل..
لقد ترجمت في مكتبة بغداد الكتب المكتوبة باللغات اليونانية والسريانية والهندية والسنسكريتية والفارسية واللاتينية وغيرها..
هذه هي مكتبة بغداد!!
المكتبة التي جمعت كل علوم الأرض في زمانها..
* إحراق مكتبة بغداد :-
=============
ماذا فعل التتار مع مكتبة بغداد الهائلة؟
لقد حمل التتار الكتب الثمينة.. ملايين الكتب الثمينة... وفي بساطة شديدة -لا تخلو من حماقة وغباء- ألقوا بها جميعاً في نهر دجلة!!!!..
لقد كان الظن أن يحمل التتار هذه الكتب القيمة إلى "قراقورم" عاصمة المغول ليستفيدوا- وهم لا يزالون في مرحلة الطفولة الحضارية - من هذا العلم النفيس.. لكن التتار أمة همجية.. لا تقرأ ولا تريد أن تتعلم.. يعيشون للشهوات والملذات فقط..
لقد كان هدفهم في الدنيا هو تخريب الدنيا!!..
ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة.. حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب.. وحتى قيل أن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى!!..
هذه جريمة ليست في حق المسلمين فقط.. بل في حق الإنسانية كلها!!..
وهي جريمة متكررة في التاريخ..
لقد فعلها الصليبيون النصارى في الأندلس - كما ذكرنا - في مكتبة قرطبة الهائلة..
وفعلها الصليبيون النصارى في الأندلس مرة أخرى في مكتبة غرناطة عند سقوطها، فأحرقوا مليون كتاب في أحد الميادين العامة!!..
وفعلها الصليبيون النصارى في الأندلس مرة ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة في مكتبات طليطلة وأشبيلية وبلنسية وسرقسطة وغيرها..
وفعلها الصليبيون النصارى في الشام في مكتبة طرابلس اللبنانية فأحرقوا ثلاثة ملايين كتاب..
وفعلها الصليبيون النصارى في فلسطين في مكتبات غزة والقدس وعسقلان..
ثم فعلها بعد ذلك المستعمرون الأوروبيون الجدد الذين نزلوا إلى بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ولكن هؤلاء كانوا أكثر ذكاء؛ فإنهم سرقوا الكتب ولم يحرقوها، ولكن أخذوها إلى أوروبا، وما زالت المكتبات الكبرى في أوروبا تحوي مجموعة من أعظم كتب العلم في الأرض.. ألّفها المسلمون على مدار عدة قرون متتالية.. ولا يشك أحد في أن أعداد الكتب الأصلية الإسلامية في مكتبات أوروبا تفوق كثيراً أعداد هذه المراجع الهامة في بلاد المسلمين أنفسهم!!..
لقد كان من هم الغزاة على طول العصور أن يحرموا هذه الأمة من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم.. إما بحرق الكتب أو بإغراقها في الأنهار أو بسرقتها.. أو بتغيير مناهج التعليم -حالياً- حتى تفرغ من كل ما هو قيّم وثمين.. كل ذلك لأن الغزاة يعرفون جيداً قيمة العلم في دين الإسلام.. ويعرفون كذلك قوة المسلمين إذا ارتبطوا بالعلم..
* تدمير حضارة بغداد :-
==============
وبعد أن فرغ التتار من تدمير وإحراق مكتبة بغداد انتقلوا إلى الديار الجميلة، وإلى المباني الأنيقة فتناولوا جلها بالتدمير والحرق.. وسرقوا المحتويات الثمينة فيها، أما ما عجزوا عن حمله من المسروقات فقد أحرقوه!!.. وظلوا كذلك حتى تحولت معظم ديار المدينة إلى ركام، وإلى خراب تتصاعد منه ألسنة النار والدخان..
واستمر هذا الوضع الأليم أربعين يوماً كاملة.. وامتلأت شوارع بغداد بتلال الجثث المتعفنة، واكتست الشوارع باللون الأحمر، وعم السكون البلدة، فلا يسمع أحد إلا أصوات ضحكات التتار الماجنة.. أو أصوات بكاء النساء والأطفال بعد أن فقدوا كل شيء..
وهنا -وبعد الأربعين يوماً- خاف هولاكو على جيشه من انتشار الأوبئة نتيجة الجثث المتعفنة (مليون جثة لم تدفن بعد)، فأصدر هولاكو بعض الأوامر الجديدة:
1- يخرج الجيش التتري بكامله من بغداد، وينتقل إلى بلد آخر في شمال العراق، لكي لا يصاب الجيش بالأمراض والأوبئة، وتترك حامية تترية صغيرة حول بغداد، فلم يعد هناك ما يخشى منه في هذه المنطقة..
2- يعلن في بغداد أمان حقيقي، فلا يقتل مسلم بصورة عشوائية بعد هذه الأربعين يوماً.. وقد سمح التتار بهذا الأمان حتى يخرج المسلمون من مخابئهم ليقوموا بدفن موتاهم.. وهذا عمل شاق جداً يحتاج إلى فترات طويلة (مليون قتيل)، وإذا لم يتم هذا العمل فقد يتغير الجو- ليس في بغداد فقط - ولكن في كل بلاد العراق والشام، وستنتشر الأمراض القاتلة في كل مكان، ولن تفرق بين مسلم وتتري، ولذلك أراد هولاكو أن يتخلص من هذه الجثث بواسطة المسلمين..
وفعلاً خرج المسلمون الذين كانوا يختفون في الخنادق أو في المقابر أو في الآبار المهجورة.. خرجوا وقد تغيرت هيئتهم، ونحلت أجسادهم، وتبدلت ألوانهم، حتى أنكر بعضهم بعضاً!!..
لقد خرج كل واحد منهم ليفتش في الجثث، وليستخرج من بين التلال المتعفنة ابناً له أو أخاً أو أباً أو أماً!!..
مصيبة كبيرة فعلاً..
بدأ المسلمون في دفن موتاهم.. ولكن كما توقع هولاكو انتشرت الأوبئة في بغداد بشكل مريع، حتى مات من المسلمين عدد هائل من الأمراض القاتلة!.. وكما يقول ابن كثير رحمه الله : "ومن نجا من الطعن، لم ينج من الطاعون!!"..
فكانت كارثة جديدة في بغداد.. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
3- كما أصدر هولاكو قراراً بأن يعين مؤيد الدين العلقمي الشيعي رئيساً على مجلس الحكم المعين من قبل التتار على بغداد، على أن توضع عليه بالطبع وصاية تترية.
ترى ما هي نهاية الخائنين؟ وما وقع تلك الأحداث على العالم الإسلامي والنصراني؟
* نهاية ابن العلقمي :-
=============
لم يكن مؤيد الدين ابن العلقمي إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار بكل تأكيد، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، ووصل إلى الإهانة المباشرة للرئيس الجديد مؤيد الدين ابن العلقمي، ولم تكن الإهانة تأتي من قبل هولاكو، بل كانت تأتي من صغار الجند في جيش التتار، وذلك لتحطيم نفسيته، ولا يشعر بقوته، ويظل تابعاً للتتر!..
وقد رأته امرأة مسلمة وهو يركب على دابته، والجنود التتر ينتهرونه ليسرع بدابته، ويضربون دابته بالعصا.. وهذا بالطبع وضع مهين جداً لحاكم بغداد الجديد.. فقالت له المرأة المسلمة الذكية: "أهكذا كان بنو العباس يعاملونك؟!
لقد لفتت المرأة المسلمة نظر الوزير الخائن إلى ما فعله في نفسه، وفي شعبه.. لقد كان الوزير معظماً في حكومة الخلافة العباسية.. وكان مقدماً على غيره.. وكان مسموع الكلمة عند كل إنسان في بغداد، حتى عند الخليفة نفسه..
أما الآن، فما أفدح المأساة!.. إنه يهان من جندي تتري بسيط لا يعرف أحد اسمه.. بل لعل هولاكو نفسه لا يعرفه..! وهكذا ـ يا إخواني ـ من باع دينه ووطنه ونفسه، فإنه يصبح بلا ثمن حتى عند الأعداء، فالعميل عند الأعداء لا يساوي عندهم أي قيمة إلا وقت الاحتياج، فإن تم لهم ما يريدون زالت قيمته بالكلية..
وقد وقعت كلمات المرأة المسلمة الفطنة في نفس مؤيد الدين العلقمي، فانطلق إلى بيته مهموماً مفضوحاً، واعتكف فيه، وركبه الهم والغم والضيق.. لقد كان هو من أوائل الذين خسروا بدخول التتار.. نعم هو الآن حاكم بغداد.. لكنه حاكم بلا سلطة.. إنه حاكم على مدينة مدمرة.. إنه حاكم على الأموات والمرضى!!..
ولم يستطع الوزير الخائن أن يتحمل الوضع الجديد.. فبعد أيام من الضيق والكمد.. مات ابن العلقمي في بيته!!..
مات بعد شهور قليلة جداً من نفس السنة التي دخل فيها التتار بغداد.. سنة 656 هـ ولم يستمتع بحكم ولا ملك ولا خيانة!.. وليكون عبرة بعد ذلك لكل خائن..
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
وولى التتار ابن مؤيد الدين العلقمي على بغداد، فالابن قد ورث الخيانة من أبيه.. لكن -سبحان الله - وكأن هذا المنصب أصبح شؤماً على من يتولاه.. فقد مات الابن الخائن هو الآخر بعد ذلك بقليل.. مات في نفس السنة التي سقطت فيها بغداد سنة 656هـ!!..
عن عمرو بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"..فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم"[1].
* أخبار سقوط بغداد على العالم الإسلامي :-
=========================
وصلت أخبار سقوط بغداد إلى العالم بأسره..
أما العالم الإسلامي فكان سقوط بغداد بالنسبة له صدمة رهيبة لا يمكن استيعابها مطلقاً.. فبغداد لم تكن مدينة عادية.. ففوق أنها أكبر مدينة على وجه الأرض في ذلك الحين، وفوق أن بها أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، وفوق أنها من أعظم دور العلم والحضارة والمدنية في الأرض، وفوق أنها من ثغور الإسلام القديمة.. فوق كل ذلك فهي عاصمة الخلافة الإسلامية!!..
* ماذا يعني سقوط بغداد؟!
===============
تساءل الناس هذا السؤال الخطير؟!
وماذا يعني قتل الخليفة، وعدم تعيين خليفة آخر؟
سؤال آخر خطير..
الدنيا لم تكن تعني للمسلمين شيئاً بدون خلافة وخليفة.. حتى مع مظاهر الضعف الواضحة في سنوات الخلافة العباسية الأخيرة، وحتى مع كونها لم تكن تسيطر حقيقة إلا على بغداد وأجزاء بسيطة من العراق فإن الخلافة كانت تعتبر رمزاً هاماً للمسلمين..
إذا كانت هناك خلافة -ولو ضعيفة- فقد يأتي زمان تتقوى فيه، أو يجتمع المسلمون تحت رايتها.. أما إذا غابت الخلافة.. فالتجمع صعب.. بل صعب جداً..
مصيبة هائلة أن تختفي الخلافة.. مصيبة هائلة أن يختفي الخليفة..
"الدنيا" بلا خليفة!!..
نسأل الله أن يجمع المسلمين تحت خلافة واحدة على منهاج النبوة..
وظهر عند المسلمين بعد سقوط بغداد اعتقاد غريب، سيطر على كثير منهم حتى ما عادوا يتكلمون إلا فيه، وانتشر بين الناس بسرعة عجيبة، والناس من عادتها أنها تحب دائماً أن تستمع إلى الغريب..
لقد ظهر اعتقاد أن خروج التتار وهزيمة المسلمين وسقوط بغداد ما هي إلا علامات للساعة، وأن "المهدي" سيخرج قريباً جداً ليقود جيوش المسلمين للانتصار على التتار!!..
وأنا أقول: نعم سيظهر المهدي في يوم ما، ونعم سينزل المسيح عز وجل، ونعم ستكون الساعة.. نعم كل هذه أمور نعلم أنها ستحدث.. يقيناً ستحدث.. ولكن متى بالضبط؟ لا يدري أحد!!..
{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63].
فلماذا تظهر مثل هذه الدعوات في أوقات الهزائم والانتكاسات؟..
إن هذا ليس له إلا مبرر واحد، وهو أن الناس قد أحبطوا تماماً فأصبحوا يشكون في إمكانية النصر على أعداء الله بمفردهم.. لقد أيقن الناس أنهم لا طاقة لهم بهولاكو وجنوده، ولذلك بحثوا عن حل آخر أسهل.. وليكن هذا الحل هو: "المهدي"، فلننتظر إلى أن يخرج المهدي، وعندها نقاتل معه.. أما قبل ذلك فلا نستطيع!..
دعنا نراقب الموقف عن بعد!!..
دعنا ننتظر معجزة!!
إحباط.. ويأس.. وقنوط..
وهذه كلها ليست من صفات المؤمنين..{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
ثم من أدراك أنك ستعيش إلى زمان خروج المهدي، بل عليك أن تعلم أنك لو مت قبل ظهوره فسوف يحاسبك الله على عملك لا على حياتك في زمانه، ثم من أدراك أنه إذا خرج المهدي فإنك ستكون من جنوده.. إن جنوده سوف يختارهم الله .. ولن يكون الاختيار عشوائياً.. حاشا لله.. إنما سيكون بحسب الإيمان والعمل..
ونسأل الله أن يستعملنا لدينه..
كان هذا هو الوضع الإسلامي بعد سقوط بغداد..
فكيف كان الوضع في العالم النصراني؟
لقد عمت البهجة والفرح أطراف العالم النصراني كله.. وهذا شيء متوقع جداً.. فكما ذكرت في أول الكتاب فإن قوى العالم الرئيسية في هذا القرن السابع الهجري كانت ثلاثة: العالم الإسلامي, والعالم النصراني, والتتار.. والحروب بين المسلمين والنصارى كانت على أشدها، وكانت هذه الضربة التترية ضربة موجعة جداً للعالم الإسلامي.. وتجددت - ولا شك - الأطماع الصليبية في مصر والشام..
وقد زاد من فرح النصارى أنهم كانوا يتعاونون مع التتار في هذه الحملة الأخيرة.. ودخل ملك أرمينيا وملك الكرج وأمير أنطاكية في حزب التتار.. وزاد من فرحتهم أن التتار -وللمرة الأولى في حياتهم- صدقوا في عهودهم.. فإنهم قد وعدوا النصارى أن لا يمسوهم بسوء في بغداد، وتم لهم ذلك، بل إن هولاكو أغدق بالهدايا الثمينة على "ماكيكا" البطريرك النصراني، وأعطاه قصراً عظيماً من قصور الخلافة العباسية على نهر دجلة، وجعله من مستشاريه، ومن أعضاء مجلس الحكم الجديد، ومن أصحاب الرأي المقربين في بغداد..
كل هذا دعا النصارى إلى أن يقولوا: إن التتار هم أدوات الله للانتقام من أعداء المسيح ، وهم بالطبع يقصدون المسلمين، مع أن التتار كانوا منذ سنوات قليلة يقتلون النصارى أنفسهم في أوروبا.. ولكن يبدو أن ذاكرة النصارى لا تتسع للكثير.. لقد تناسى الصليبيون ما فعله التتار معهم ما دام التتار يقتلون المسلمين، تماماً كما يتناسى النصارى اليوم ما فعله اليهود معهم ما دام اليهود يقتلون المسلمين.. والتاريخ يعيد نفسه دائماً..
وهذه الكلمات التي قالها النصارى عن التتار، وهذه الشماتة الواضحة في المسلمين، كانت هي نفس الكلمات ونفس الشماتة التي حدثت بعد سقوط غرناطة في الأندلس، وسبحان الله !!.. فالذي يراجع سقوط غرناطة يجد تشابهاً عجيباً بين سقوطها وسقوط بغداد.. مما يعطي أهمية قصوى لدراسة التاريخ؛ لأنه يتكرر بصورة قد لا يتخيلها البشر!!..


* خيانة الناصر يوسف الأيوبي *
====================
لم يكتف الناصر يوسف الأيوبي بمنع المساعدة عن الكامل محمد الأيوبي، ولم يكتف بالمشاركة في حصار ميافارقين، بل أرسل رسالة إلى هولاكو مع ابنه العزيز، يطلب منه أن يساعده في الهجوم على مصر، والاستيلاء عليها من المماليك!!!..
تخيلوا.. أنه في هذه الظروف يطلب الناصر يوسف من التتار الهجوم على مصر!!..
ولم ينس الناصر يوسف طبعاً أن يحمل ابنه العزيز بالهدايا الثمينة، والتحف النفيسة، إلى صديقه جديد هولاكو..
ولكن سبحان الله !.. على نفسها جنت براقش!!..
فقد استكبر هولاكو أن يرسل له الناصر يوسف ابنه العزيز ولا يأتي بنفسه، فقد أتى الأمراء الآخرون بأنفسهم، واستكبر هولاكو أيضاً أن يطلب منه الناصر يوسف أن يعينه في الاستيلاء على مصر لضمها لحكم الناصر يوسف؛ وذلك لأن هولاكو بطبيعة الحال يريد للشام ومصر معًا أن يدخلا في حكمه هو لا في حكم الناصر يوسف ومن هنا غضب هولاكو، وأرسل رسالة شديدة اللهجة إلى الناصر يوسف.. كل هذا مع أن العزيز بن الناصر يوسف آثر أن يبقى في عسكر هولاكو ليهاجم معه المسلمين!!..
وطبعاً ليس هذا مستغرباً.. فهذا الشبل من ذاك الأسد!!..
* رسالة هولاكو إلى الناصر يوسف الأيوبي :-
==========================
ولنقرأ سوياً رسالة هولاكو إلى الناصر يوسف حاكم حلب ودمشق.. وواضح - بالطبع - أن هناك بعض الأدباء المسلمين المحترفين كانوا في جيش هولاكو يصوغون له ما أراد من أمور في لغة عربية سليمة، وبأسلوب يناسب العصر الذي كتبت فيه..
**قال هولاكو :-
==========
"الذي يعلم به الملك الناصر صاحب حلب، أنا قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى، وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنيانها، وأسرنا سكانها، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34]، واستحضرنا خليفتها، وسألناه عن كلمات فكذب، فواقعه الندم، واستوجب منا العدم، وكان قد جمع ذخائر نفيسة، وكانت نفسه خسيسة، فجمع المال، ولم يعبأ بالرجال، وكان قد نمى ذكره، وعظم قدره، ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال..
إذا تم أمـر دنا نقصــه توقع زوالاً إذا قيـل تـم
إذا كنت في نعمـة فارعه فإن المعاصي تزيل النعـم
وكم من فتى بات في نعمة فلم يدر بالموت حتى هجم
إذا وقفت على كتابي هذا، فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلىّ طاعة سلطان الأرض شاهنشاه روي زمين (أي ملك الملوك على وجه الأرض) تأمن شره، وتنل خيره، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 39- 41]، ولا تعوق رسلنا عندك كما عوقت رسلنا من قبل، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم انهزموا بحريمهم إلى مصر (وقد حدث هذا بالفعل؛ إذ فر كثير من التجار من الشام عندما علموا بقرب قدوم التتار)، فإن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها..
أين النجاة ولا مناص لهارب ولي البسيطان الندى والماء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت في قبضتي الأمراء والوزراء"
وانتهت الرسالة التترية المرعبة!!..
وسقط قلب الناصر يوسف في قدمه!!..
ماذا يفعل؟!






* الناصر يوسف يعلن الجهاد :-
==================
لقد وضحت نوايا هولاكو، فهو يطلب منه صراحة التسليم الكامل، ويخبره أنه سيتتبع من فر من تجاره وشعبه وذكره هولاكو بمصير الخليفة العباسي البائس.. فهل يُسلم كل شيء لهولاكو؟ ماذا يبقى له بعد ذلك؟ إن حب الملك والسلطان يجري في دمه، ولو رفعه هولاكو من على كرسي الحكم فماذا يبقى له؟؟!
لذلك قرر الناصر يوسف أن يتخذ قراراً ما فكر فيه طيلة حياته، لقد اضطر اضطراراً أن يتخذ قرار الجهاد ضد التتار!!..
ومع أن الجميع يعلم أن الناصر يوسف ليس من أهل الجهاد.. وليس عنده أي حمية للدين ولا للعقيدة ولا للمروءة، إلا أنه أعلن أنه سيجاهد التتار في سبيل الله !!..
كانت دعوة مضحكة جداً من رجل اعتاد أن يبيع كل شيء، وأي شيء، ليشتري ساعة أو ساعتين على كرسي الحكم!..
هذا ما حدث!!
ورفع الناصر يوسف راية بلاده، وكتب عليها "الله اكبر"، وبدأ يحمس شعبه على الجهاد في سبيل الكرسي!.. أقصد: في سبيل الله !!
الناصر يوسف يعلن الجهاد!!
الناصر يوسف الذي راسل لويس التاسع ملك فرنسا قبل ذلك ليساعده في حرب مصر على أن يعطيه بيت المقدس يعلن الجهاد!!..
الناصر يوسف الذي أيد دخول التتار إلى بغداد، وهنأ هولاكو على نصره العظيم يعلن الجهاد!!..
الناصر يوسف الذي تخلى عن الكامل محمد الأيوبي أمير ميافارقين ولم يمده حتى بالطعام يعلن الجهاد!!
الناصر يوسف الذي كان يطلب منذ أيام قلائل من هولاكو أن يساعده على غزو مصر يعلن الجهاد!!..
الناصر يوسف بكل هذا التاريخ الفاضح يعلن الجهاد!!..
يا للمهزلة!!
يا إخواني: {إِنَّ الله لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
لقد كان الناصر يوسف يتاجر بعواطف شعبه.. لقد ظهر سوء خلقه، وفساد عقيدته، وانعدام رؤيته للناس أجمعين، فكان من الحماقة أن يعتقد بعض المسلمين أن الله عز وجل سينصر الإسلام على يده..
لقد استجاب بعض المتحمسين للناصر يوسف وجاءوا يقاتلون تحت رايته الجديدة، ولكن استقراء التاريخ والواقع يشير إلى أنه حتماً سيفر إذا جاء اللقاء.. لن يمكث الناصر يوسف في أرض المعركة إلا قليلاً ... بل قد يهرب قبل بدء القتال أصلاً.. وساعتها قد يصدم بعض المتحمسين للدين، ويشعرون بالإحباط الشديد، ولكن على هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم، فخطؤهم الأكبر لم يكن الإحباط بعد فرار الزعيم، إنما الخطأ الأكبر فعلاً هو اعتقاد أن الناصر يوسف أو أمثاله يستطيعون حمل راية الجهاد الثقيلة جداً!!
إذا سمعتم - يا إخواني - دعوة الجهاد فانظروا من ينادي بها.. فهذه العبادة هي ذروة سنام الإسلام.. ولا ينادي بها حقاً إلا أعاظم الرجال..
المهم أن الناصر يوسف أعلن دعوة الجهاد، وضرب معسكراً لجيشه في شمال دمشق عند قرية برزة، مع أنه كان من المفروض أن يتقدم بجيشه إلى حلب لحمايتها، فهي من أهم المدن في مملكته، ولاستقبال جيش هولاكو عند أولى محطات الشام، أو كان عليه أن يذهب بجيشه إلى ميافارقين ليضم قوته إلى قوة الكامل محمد فتزيد فرص النصر، لكن هذا كله لم يكن في حساب الناصر يوسف، إنما ضرب معسكره في دمشق في عمق بلاد الشام، حتى إذا جاءه هولاكو وجد لنفسه فرصة للهرب، فهو لا يريد تعريض حياته الغالية لأدنى خطر!..
* الناصر يوسف يطلب العون من الأمراء :-
=========================
بدأ الناصر يوسف يراسل الأمراء من حوله لينضموا إليه لقتال التتار، فراسل أمير إمارة الكرك شرق البحر الميت (في الأردن حالياً) وكان اسمه"المغيث فتح الدين عمر"، ولم يكن مغيثاً إلا لنفسه، ولم يكن فتحاً للدين، ولم يكن شبيهاً بعمر.. إنما كان رجلاً على شاكلة الناصر يوسف، يحارب التتار تارة، ويطلب عونهم تارة أخرى بحسب الظروف والأحوال!!..
كما راسل الناصر يوسف أميراً آخر ما توقع أحد أن يراسله أبداً فلقد راسل أمير مصر يطلب معونته في حرب التتار!!..
سبحان الله !.. لقد كان منذ أيام عدواً لأمير مصر، وكان يطلب من التتار أن يعاونوه في حربه، وهو الآن عدو التتار، ويطلب من أمير مصر أن يساعده في حرب التتار!..
ليس هناك مبدأ.. ولا قاعدة.. ولا أصل.. إنما المصلحة الشخصية.. فقط.
* هولاكو يعد العدة للناصر يوسف :-
=====================
لنترك الناصر يوسف ومعسكره الجهادي، ولنذهب إلى هولاكو وقد عاد من قلعة "شها" إلى مدينة همدان حيث القيادة المركزية لإدارة شئون الحروب في منطقة الشرق الأوسط..
وبدأ هولاكو يعيد ترتيب أوراقه نتيجة التطورات الجديدة.. التي تتسارع في هذه المنطقة الملتهبة (منطقة الشرق الأوسط!!)
أولاً: علاقة التتار بالنصارى تزداد قوة، وخاصةً بعد ظهور بعض النماذج الإسلامية المعارضة لوجود التتار، فهنا سيظهر احتياج التتار لقوة النصارى للمساعدة في إخماد الثورات من ناحية، ولنقل الخبرة من ناحية أخرى، ولإدارة الأمور في الشام بعد إسقاطها من ناحية ثالثة، ومن هنا أغدق هولاكو الهدايا والمكافئات على هيثوم ملك أرمينيا، وكذلك على ملك الكرج، وعلى "بوهميند" أمير أنطاكية.
ثانياً: الحصار ما زال مضروباً حول ميافارقين، ويقود الحصار ابن هولاكو "أشموط"، ومع بسالة المقاومة وشجاعة الكامل محمد إلا أن الحصار شديد الإحكام، خاصة أن قوات الأرمن والكرج تشتركان فيه، ولا يحاول أي أمير مسلم أن يساعده في فكه..
ثالثاً: ظهر الموقف العدائي من الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب ودمشق، وضرب معسكره شمال دمشق، وبدأ في إعداد الجيش لمقابلة التتار، لكن هذا الإعداد لم يقابَل بأي اهتمام من هولاكو، فهو يعرف إمكانيات الناصر ونفسيته، ولذلك كانت هذه مسألة تافهة نسبياً في نظر هولاكو..
رابعاً: منطقة العراق الأوسط -وأهم مدنها بغداد- قد أعلنت استسلامها بالكامل للتتار وأصبحت آمنة تماماً، كذلك ظهر ولاء أمير الموصل التام للتتار، وبالتالي أصبح الشمال الشرقي من العراق أيضاً آمناً تماماً..
خامساً: أقوى المدن في الشام هما مدينتا حلب ودمشق.. ولو سقطت هاتان المدينتان فإن ذلك يعني سقوط الشام كلية، ومدينة حلب تقع في شمال دمشق على بعد ما يقرب من ثلاثمائة كيلومتر..
بعد استعراض هذه النقاط فإن هولاكو قرر أنه من المناسب أن يتوجه مباشرة لإسقاط إحدى هاتين المدينتين: حلب أو دمشق.. فبأي المدينتين بدأ هولاكو؟

Re: القصة الكاملة لخطط ومؤامرات وغزو التتار لبلاد المسلمين وانهاء الخلافة الإسلامية

مشاركة غير مقروءة بواسطة شيرين مدحت »

* سقوط ميافارقين وحصار حلب *
====================
* تخطيط هولاكو لإسقاط حلب :-
==================
لقد وجد هولاكو أنه لو أراد التوجه إلى حلب فإنه سوف يخترق الشمال العراقي أولاً، ثم يدخل سوريا من شمالها الشرقي مخترقاً بذلك شمال سوريا، موازيًا حدود تركيا.. حتى يصل إلى حلب في شمال سوريا الغربي، وهذه المناطق وإن كانت كثيرة الأنهار - والأنهار تعتبر من العوائق الطبيعية الصعبة, وخاصة في مناورات الجيوش الضخمة ـ إلا أن هذه المناطق خضراء، ووفيرة الزرع، ووفيرة المياه، بالإضافة إلى أنها قريبة من ميافارقين، فلو احتاج جيش أشموط بن هولاكو لمدد من جيش التتار الرئيسي فإنه سيكون قريباً منه..
أما إذا أراد هولاكو أن يتوجه إلى دمشق أولاً فهذا -وإن كان سيمثل عنصر مفاجأة رهيبة للمسلمين في دمشق لأن هولاكو سيأتي من حيث لا يتوقعون- إلا أنه يتحتم على هولاكو لكي يفعل ذلك أن يجتاز صحراء بادية الشام أو صحراء السماوة بكاملها ليصل إلى دمشق، وهذه صحراء قاحلة جداً، والسير فيها بجيش كبير يعتبر مخاطرة مروعة، ولا يستطيع هولاكو أن يقدم على هذه الخطوة.. مع أنه لو فعلها لفاجأ جيش الناصر يوسف من حيث لا يتوقع، وقابل القوة الرئيسية للمسلمين في المنطقة..
وسبحان الله !.. قبل ذلك بأكثر من ستة قرون، وبإمكانيات أقل من ذلك بكثير اجتاز خالد بن الوليد هذه الصحراء الشاسعة بجيشه من العراق، ليفاجئ جيوش الرومان بالقرب من دمشق، ونجح في ذلك نجاحاً مبهراً، لكن شتان بين خالد الصحابي ، وهولاكو السفاح لعنه الله ..
المهم.. باستقراء هذه الأمور جميعاً قرر هولاكو أن يتوجه بجيشه إلى حلب أولاً، على أن يبقى ابنه أشموط محاصراً لميافارقين..
* الطريق إلى حلب :-
=============
وبدأ جيش التتار الجرّار في التحرك من قواعده في همدان في اتجاه الغرب، حيث اجتاز الجبال في غرب إيران، ثم دخل حدود العراق من شمالها الشرقي، ثم اجتاز مدينة أربيل، ووصل إلى مدينة الموصل الموالية له، فعبر عندها نهر دجلة، وهو العائق المائي الأول في هذه المنطقة، وهو عائق خطير فعلاً، وكان لابد من عبور هذا النهر في منطقة آمنة تماماً، وذلك لخطورة عبور الجيش الكبير، ولم يكن هناك أفضل من هذه المنطقة الموالية تماماً له!!.. ثم سار جيش التتار بحذاء نهر دجلة على شاطئه الغربي في أرض الجزيرة ليصل إلى مدينة "نصيبين" (في جنوب تركيا الآن)، وهي مدينة تقع جنوب ميافارقين بحوالي 170 كيلو متر فقط، وبذلك اقترب من جيش ابنه أشموط، إلا أنه لم يذهب إليه لاطمئنانه لقوته..
احتل هولاكو مدينة "نصيبين" دون مقاومة تذكر، ثم اتجه غرباً ليحتل مدن "حران"، ثم مدينة "الرها" ثم مدينة "إلبيرة"، وكل هذه المدن في جنوب تركيا، فكان على هولاكو أن يخترق كل هذه المدن التركية لينزل على مدينة "حلب" من شمالها، وبذلك يطمئن لعدم وجود أي جيوب إسلامية في ظهره..
وعند مدينة "إلبيرة" عبر هولاكو نهر الفرات الكبير من شرقه إلى غربه، وبذلك عبر العائق المائي الثاني في المنطقة دون مشاكل تذكر، ثم اتجه جنوباً غرب نهر الفرات ليخترق بذلك الحدود التركية السورية متوجهاً إلى مدينة حلب الحصينة، والقريبة جداً من الحدود التركية (حوالي خمسين كيلو مترًا فقط(..، استمرت هذه الاختراقات التترية للأراضي الفارسية ثم العراقية ثم التركية ثم السورية مدة عامًا كاملًا وهو عام657هـ.
* حصار حلب :-
==========
وصل هولاكو إلى حلب في المحرم من سنة 658هـ، وأطبقت الجيوش المغولية التترية على المدينة المسلمة من كل الجهات، ولكن حلب رفضت التسليم لهولاكو، وتزعم المقاومة فيها توران شاه عم الناصر يوسف الأيوبي، ولكنه كان مجاهداً بحق وليس كابن أخيه، ونصبت المجانيق التترية حول مدينة حلب.. وبدأ القصف المتوالي من التتار على المدينة.. وبالطبع كان الناصر يوسف يربض بجيشه بعيداً على مسافة ثلاثمائة كيلومتر إلى الجنوب في دمشق!!..






* سقوط ميافارقين!!
============
وفي هذه الأثناء حدث حادث أليم ومفجع، إذ سقطت مدينة ميافارقين تحت أقدام التتار بعد الحصار البشع الذي استمر عاماً ونصف عام!..
ثمانية عشر شهراً متصلة من النضال والكفاح والجهاد.. وذلك دون أن تتحرك نخوة قلب أمير من الأمراء أو ملك من الملوك!.. ثمانية عشر شهراً والناصر والأشرف والمغيث وغيرهم من الأسماء الضخمة يراقبون الموقف ولا يتحركون!..
سقطت مدينة ميافارقين الباسلة، واستبيحت حرماتها تماماً.. فقد جعلها أشموط بن هولاكو عبرة لكل بلد يقاوم في هذه المنطقة.. فقتل السفاح كل سكانها، وحرَّق ديارها، ودمرها تدميراً.. ولكنه احتفظ بالأمير الكامل محمد الأيوبي -رحمه الله - حياً ليزيد من عذابه، وذهب به إلى أبيه هولاكو وهو في حصار مدينة حلب..
* استشهاد الكامل محمد الأيوبي :-
====================
استجمع هولاكو كل شره في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي -رحمه الله -، فأمسك به وقيده، ثم أخذ يقطع أطرافه وهو حي، بل إنه أجبره أن يأكل من لحمه!!.. وظل به على هذا التعذيب البشع إلى أن أذن الله للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها..
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : "ما من عبد يموت ـ له عند الله خير ـ يسره أن يرجع إلى الدنيا ـ وأن له الدنيا وما فيها ـ إلا الشهيد، لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسرّه أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل مرة أخرى"..[1].
وقد يقول قائل: لقد قتل الكامل محمد الذي قاوم، كما قتل الخليفة المستعصم بالله الذي سلم ولم يقاوم!.. ولكن أقول لكم يا إخواني: شتان!!..
شتان بين من مات رافعاً رأسه، ومن يموت ذليلاً منكسراً مطأطئ الرأس..
شتان بين من مات وهو ممسك بسيفه، ومن مات وهو رافع يده بالتسليم..
شتان بين من مات بسهم في صدره وهو مقبل، ومن مات بسهم في ظهره وهو مدبر..
والكامل محمد رحمه الله مات في الميعاد الذي حدده رب العالمين.. إنه لم يتقدم لحظة، ولم يتأخر لحظة.. وكذلك مات المستعصم بالله في الميعاد الذي حدده رب العالمين.. لم يتقدم لحظة، ولم يتأخر لحظة.. لكن أين اليقين؟!
استشهد البطل الأمير الكامل محمد الأيوبي، والذي كان بمثابة شمعة مضيئة في عالم من الظلام، وقطع السفاح هولاكو رأسه، وأمر أن يطاف برأسه في كل بلاد الشام، وذلك ليكون عبرة لكل المسلمين، وانتهى المطاف بالرأس بعد ذلك إلى دمشق، حيث عُلِّقَ فترةً على أحد أبواب دمشق، وهو باب الفراديس، ثم انتهى به المقام أن دفن في أحد المساجد، والذي عُرِفَ بعد ذلك بمسجد الرأس..




* الدولة الأيوبية *
============
لقد أسَّسَ البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي دولة الأيوبيين في سنة 569هـ، وظل يحكم هذه الدولة عشرين سنة إلى سنة 589هـ، ووحد في هذه الفترة مصر والشام، وتزعم الجهاد ضد الممالك الصليبية باقتدار، وحقق عليهم انتصارات هائلة، والتي من أشهرها موقعة حطين الخالدة في ربيع الثاني سنة 583هـ، وفتح بيت المقدس بعد حطين بثلاثة شهور فقط في رجب من نفس السنة، وترك صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله - دولة قوية عظيمة تبسط سيطرتها على مصر والشام والحجاز واليمن وأعالي العراق وأجزاء من تركيا وأجزاء من ليبيا والنوبة.. وحُصر الصليبيون في ساحل ضيق على البحر الأبيض المتوسط في الشام.
لكن -سبحان الله - بوفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تقلص دور الجهاد ضد الصليبيين، وفُتن المسلمون بالدولة الكبيرة، وكثرت الأموال، وانفتحت الدنيا، واتسعت البلاد، وكان من جراء هذه العوامل وغيرها أن حدثت انقسامات شديدة في الدولة الأيوبية، وتفككت الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ..
وقد استمر الصراع بين أمراء الأيوبيين نحو ستين سنة متصلة منذ موت صلاح الدين الأيوبي في سنة 589هـ، وإلى انتهاء الدولة الأيوبية في سنة 648هـ، ولم يكن هذا الصراعُ صراعَ كلام وسباب وشقاق فقط.. بل كان يصل إلى حد التقاتل بالسيوف، وإراقة الدماء المسلمة، وأدى ذلك بالطبع إلى الفُرقة الشديدة، والتشرذم المقيت.. بل كان يصل أحياناً الخلاف وانعدام الرؤية إلى درجة التعاون مع الصليبيين ضد المسلمين!! أو التعاون مع التتار ضد المسلمين!! وكل هذا من جراء الوقوع تحت فتنة الدنيا الرهيبة التي طالما حذر منها رسول الله ..


فعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله : "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"[1]..


لقد جعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الجهاد نصب عينيه، وجعل له هدفاً واحداً هو قتال الصليبيين، وإعلاء كلمة الدين، فجمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا –فعلاً- وهي راغمة..
أما معظم السلاطين الذين جاءوا من بعده فقد جعلوا الدنيا أكبر همهم، فتفرق عليهم الأمر تماماً، فما عادوا يدركون الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، فتارة مع المسلمين، وتارة مع الصليبيين، وتارة مع التتار، فجعل الله فقرهم بين أعينهم، فمنهم من مات ذليلاً، ومنهم من مات فقيراً، ومنهم من مات طريداً، ومنهم من مات حبيساً..
كان هذا هو واقع المسلمين في معظم الفترة التي تلت حكم البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ..


* الملك الصالح نجم الدين أيوب :-
====================
سأقفز بكم خمسين سنة من الصراع، وأصل بكم إلى السنوات العشر الأخيرة من الدولة الأيوبية، وبالتحديد إلى سنة 637هـ، وذلك حين تولى عرش مصر السلطان الأيوبي "الصالح نجم الدين أيوب" أو "الملك الصالح"، والذي يعد من أفضل السلاطين الأيوبيين بعد صلاح الدين، وللأسف فإن كثيراً من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن هذا السلطان العظيم حتى في مصر، والتي كانت مقر حكمه الرئيسي..


تولى الملك الصالح أيوب حكم مصر سنة 637هـ، وكالعادة الجارية في تلك الأيام استعدّ الأمراء الأيوبيون في الشام للتقاتل معه على خلافة مصر.. وحدثت بينهم مناوشات وحروب، ووصل الأمر إلى مداه في سنة 641 هجرية عندما توحدت قوى الأيوبيين المتناثرة في الشام، وتحالفت مع الصليبيين لحرب الملك الصالح أيوب!!.. وذلك في مقابل أن يتنازل أمراء الشام الأيوبيون عن بيت المقدس للصليبيين!!!..


والحق أن المرء لا يستطيع أن يتخيل كيف قبل أولئك الأمراء أن يتنازلوا عن بيت المقدس للنصارى، والمسلم الصادق لا يتخيل التفريط في أي بقعة إسلامية مهما صغرت، فكيف ببيت المقدس خاصة، والذي به ـ كما يعرف الجميع ـ المسجد الأقصى، والذي حرَّرَهُ جدهم البطل صلاح الدين رحمه الله من أيدي الصليبيين، وأريقت في سبيل تحريره دماء كثيرة، ومرت على المسلمين فترات عصيبة، وحروب مريرة.. لكن -سبحان الله - هذا ما حدث بالفعل!..


وتوحدت قوى أمراء الشام الأيوبيين مع الصليبيين في جيش كبير، وبدأ الزحف في اتجاه مصر.. وهنا أعد الملك الصالح جيشه، ووضع على قيادته أكفأ قادته وهو ركن الدين بيبرس، واستعد للمواجهة.. وكان الجيش المصري قليلاً وضعيفاً إذا قورن بالأعداد الكبيرة لجيوش الشام والصليبيين، ولذلك استعان الملك الصالح بالجنود الخوارزمية الذين كانوا قد فروا من قبل من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها، والذي فصلنا فيه في المقالات السابقة..


وكان هؤلاء الجنود الخوارزمية جنوداً مرتزقة بمعنى الكلمة.. بمعنى أنهم يتعاونون مع من يدفع أكثر، ويعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال، فاستعان بهم الملك الصالح أيوب بالأجرة، ودارت موقعة كبيرة بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وعرفت هذه الموقعة باسم موقعة غزة، وكانت في سنة 642هـ، وكانت هذه الموقعة قد وقعت بالقرب من مدينة غزة الفلسطينية المحررة -نسأل الله أن يحرر كامل فلسطين- وانتصر فيها الملك الصالح انتصاراً باهراً، وقُتل من الصليبيين أعداد كبيرة وصلت إلى ثلاثين ألف مقاتل، وأسرت مجموعة كبيرة من أمرائهم وملوكهم، وكذلك أسرت مجموعة من أمراء الأيوبيين، واستغل الصالح أيوب الفرصة واتجه إلى بيت المقدس الذي كان الأيوبيون في الشام قد تنازلوا عنه للصليبيين، فاقتحم حصون الصليبيين، وحرّر المدينة المباركة بجيشه المدعم بالخوارزمية في سنة 643هـ، وبذلك حُرّر بيت المقدس نهائياً، ولم يستطع جيش نصراني أن يدخله أبداً لمدة سبعة قرون كاملة، إلى أن دخلته الجيوش البريطانية في الحرب العالمية الأولى في يوم 16 نوفمبر سنة 1917م، وذلك بالخيانة المعروفة لمصطفي كمال أتاتورك.. نسأل الله أن يعيده من جديد إلى الإسلام والمسلمين..


ثم إن الملك الصالح أيوب أكمل طريقه في اتجاه الشمال، ودخل دمشق، ووحّد مصر والشام من جديد، بل اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحرر بالفعل طبرية وعسقلان وغيرهما..


غير أنه حدث تطور خطير جداً في جيش الصالح أيوب رحمه الله ، حيث انشقت عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة!.. وذلك بعد أن استمالها أحد الأمراء الأيوبيين بالشام مقابل دفع مال أكثر من المال الذي يدفعه لهم الصالح أيوب، ولم تكتف هذه الفرقة بالخروج، بل حاربت الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذه الحرب إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه قائده المحنك ركن الدين بيبرس..


وخرج الصالح أيوب من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لابد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله.. فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية.. وكانت هذه الطائفة هي: "المماليك"..


فمن هم المماليك؟ وكيف كانت تربيتهم ونشأتهم؟


























* نشأة المماليك *
============
* من هم المماليك؟
===========
المماليك في اللغة العربية هم العبيد أو الرقيق، وبخاصة هم الذين سُبُوا ولم يُسب آباؤهم ولا أمهاتهم.. ومفرد المماليك مملوك، وهو العبد الذي يباع ويشترى.. (العبد الذي سُبِي أبواه يعرف بالعبد القن وليس المملوك)..
ومع أن لفظ المماليك بهذا التعريف يعتبر عاماً على معظم الرقيق، إلا أنه اتخذ مدلولاً اصطلاحياً خاصاً في التاريخ الإسلامي، وذلك منذ أيام الخليفة العباسي المشهور المأمون، والذي حكم من سنة 198هـ إلى 218هـ، وأخيه المعتصم الذي حكم من سنة 218هـ إلى 227هـ.. ففي فترة حكم هذين الخليفتين استجلبا أعداداً ضخمة من الرقيق عن طريق الشراء من أسواق النخاسة، واستخدموهم كفرق عسكرية بهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نفوذهما..
وبذلك ـ ومع مرور الوقت ـ أصبح المماليك هم الأداة العسكرية الرئيسية ـ وأحياناً الوحيدة ـ في كثير من البلاد الإسلامية.. وكان أمراء الدولة الأيوبية بوجه خاص يعتمدون على المماليك الذين يمتلكونهم في تدعيم قوتهم، ويستخدمونهم في حروبهم، لكن كانت أعدادهم محدودة إلى حد ما، إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وحدثت فتنة خروج الخوارزمية من جيشه، فاضطر رحمه الله إلى الإكثار من المماليك، حتى يقوي جيشه ويعتمد عليهم، وبذلك تزايدت أعداد المماليك جداً، وخاصة في مصر..


* مصادر المماليك :-
============
كان المصدر الرئيسي للمماليك إما بالأسر في الحروب، أو الشراء من أسواق النخاسة.. ومن أكثر المناطق التي كان يجلب منها المماليك بلاد ما وراء النهر، (النهر المقصود هو نهر جيحون، وهو الذي يجري شمال تركمنستان وأفغانستان، ويفصل بينهما وبين أوزبكستان وطاجكستان).


وكانت الأعراق التي تعيش خلف هذا النهر أعراق تركية في الأغلب، وكانت هذه المناطق مسرحاً دائماً للقتال وعدم الاستقرار، ولذلك كثر الأسرى القادمون من هذه المناطق، وكثرت أسواق الرقيق هناك، ومن أشهر مدن الرقيق في ذلك الوقت كانت "سمرقند" و"فرغانة" و"خوارزم" وغيرها.. لذلك كان الأصل التركي هو الغالب على المماليك، وإن كان لا يمنع أن هناك مماليك من أصول أرمينية ومن أصول مغولية، كما كان هناك مماليك من أصول أوروبية، وكان هؤلاء الأوربيون يعرفون بالصقالبة، وكانوا يستقدمون من شرق أوروبا بوجه خاص..


كل هذا كان يحدث على مدار عشرات أو مئات السنين، ولكن الأمر الذي استحدثه الملك الصالح أيوب -وتبعه بعد ذلك سلاطين دولة المماليك- أنه كان لا يأتي إلا بالمماليك الصغار في السن، أي في مرحلة الطفولة المبكرة، وكان غالبهم من بلاد غير مسلمة، وإن كان يحدث أحياناً أن يؤسر بعض الأطفال المسلمين غير الناطقين بالعربية، فلا يُعرفون، ولا يُعرف أصلهم أو دينهم، فيعاملون معاملة الرقيق..






* تربية المماليك :-
===========
كان الصالح أيوب -ومن تبعه من الأمراء- لا يتعاملون مع المماليك كرقيق.. بل على العكس من ذلك تماماً.. فقد كانوا يقربونهم جداً منهم لدرجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم.. ولم تكن الرابطة التي تربط بين المالك والمملوك هي رابطة السيد والعبد أبداً، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأبناء عائلته.. وهذه كلها روابط تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة.. حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب "الأستاذ" وليس لقب "السيد"..


ويشرح لنا المقريزي رحمه الله كيف كان يتربى المملوك الصغير الذي يُشترى وهو ما زال في طفولته المبكرة، فيقول: "إن أول المراحل في حياة المملوك هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم بعد ذلك يُدفع إلي من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي، وآداب الشريعة الإسلامية.. ويُهتم جداً بتدريبه على الصلاة، وكذلك على الأذكار النبوية، ويُراقب المملوك مراقبة شديدة من مؤدبيه ومعلميه، فإذا ارتكب خطأً يمس الآداب الإسلامية نُبه إلى ذلك، ثم عوقب"..


لهذه التربية المتميزة كان أطفال المماليك ينشئون عادة وهم يعظمون أمر الدين الإسلامي جدًا، وتتكون لديهم خلفية واسعة جداً عن الفقه الإسلامي، وتظل مكانة العلم والعلماء عالية جداً جداً عند المماليك طيلة حياتهم، وهذا ما يفسر النهضة العلمية الراقية التي حدثت في زمان المماليك، وكيف كانوا يقدرون العلماء حتى ولو خالفوهم في الرأي.. ولذلك ظهر في زمان دولة المماليك الكثير من علماء المسلمين الأفذاذ من أمثال العز بن عبد السلام والنووي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن حجر العسقلاني وابن كثير والمقريزي وابن جماعة وابن قدامة المقدسي رحمهم الله جميعاً، وظهرت أيضاً غيرهم أعداد هائلة من العلماء يصعب جداً حصرهم..


ثم إذا وصل المملوك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال فيعلمونهم فنون الحرب والقتال وركوب الخيل والرمي بالسهام والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جداً في المهارة القتالية، والقوة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب..


ثم يتدربون بعد ذلك على أمور القيادة والإدارة ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك وهو متفوق تماماً في المجال العسكري والإداري، وذلك بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة.. وهذا كله - بلا شك - كان يثبت أقدام المماليك تماماً في أرض القتال..


وكل ما سبق يشير إلى دور من أعظم أدوار المربين والآباء والدعاة، وهو الاهتمام الدقيق بالنشء الصغير، فهو عادة ما يكون سهل التشكيل، ليس في عقله أفكار منحرفة، ولا عقائد فاسدة، كما أنه يتمتع بالحمية والقوة والنشاط، وكل ذلك يؤهله لتأدية الواجبات الصعبة والمهام الضخمة على أفضل ما يكون الأداء..


وفي كل هذه المراحل من التربية كان السيد الذي اشتراهم يتابع كل هذه الخطوات بدقة، بل أحياناً كان السلطان الصالح أيوب - رحمه الله - يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيراً ما يجلس للأكل معهم، ويكثر من التبسط إليهم، وكان المماليك يحبونه حباً كبيراً حقيقياً، ويدينون له بالولاء التام..
وهكذا دائماً.. إذا كان القائد يخالط شعبه، ويشعر بهم، ويفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويتألم لألمهم، فإنهم -ولاشك- يحبونه ويعظمونه، ولا شك أيضاً أنهم يثقون به، وإذا أمرهم بجهاد استجابوا سريعاً، وإذا كلفهم أمراً تسابقوا لتنفيذه، وبذلوا أرواحهم لتحقيقه.. أما إذا كان القائد في حالة انفصال عن شعبه، وكان يعيش حياته المترفة بعيداً عن رعيته.. يتمتع بكل ملذات الحياة وهم في كدحهم يعانون ويتألمون، فإنهم لا يشعرون ناحيته بأي انتماء.. بل إنهم قد يفقدون الانتماء إلى أوطانهم نفسها.. ويصبح الإصلاح والبناء في هذه الحالة ضرباً من المستحيل..


وكان المملوك إذا أظهر نبوغاً عسكرياً ودينياً فإنه يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، فيصبح هو قائداً لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أعطي بعض الإقطاعات في الدولة فيمتلكها، فتدر عليه أرباحاً وفيرة، وقد يُعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، وهم أمراء الأقاليم المختلفة، وأمراء الفرق في الجيش وهكذا..


وكان المماليك في الاسم ينتسبون عادة إلى السيد الذي اشتراهم.. فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالصالحية، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالكاملية وهكذا..


وقد زاد عدد المماليك الصالحية، وقوي نفوذهم وشأنهم في عهد الملك الصالح أيوب، حتى بنى لنفسه قصراً على النيل، وبنى للمماليك قلعة إلى جواره تماماً.. وكان القصر والقلعة في منطقة الروضة بالقاهرة، وكان النيل يعرف بالبحر، ولذلك اشتهرت تسمية المماليك الصالحية "بالمماليك البحرية" (لأنهم يسكنون بجوار البحر).


وهكذا وطد الملك الصالح أيوب ملكه بالاستعانة بالمماليك الذين وصلوا إلى أرقى المناصب في جيشه وفي دولته، وتولى قيادة الجيش في عهده أحد المماليك البارزين اسمه "فارس الدين أقطاي"، وكان الذي يليه في الدرجة هو ركن الدين بيبرس، فهما بذلك من المماليك البحرية..

Re: القصة الكاملة لخطط ومؤامرات وغزو التتار لبلاد المسلمين وانهاء الخلافة الإسلامية

مشاركة غير مقروءة بواسطة شيرين مدحت »

* الحملة الصليبية السابعة ونهاية الدولة الأيوبية *
============================
* الحملة الصليبية السابعة (حملة لويس التاسع ) :-
=================================
أحداث سنة 647هـ.. ففي هذه السنة كان الصالح نجم الدين أيوب قد مرض مرضاً شديداً، وكان مصاباً بمرض السل، وبالإضافة إلى كبر سنه فإن هذا جعله طريح الفراش في القاهرة، وفي هذه الأثناء وقبلها كان ملك فرنسا لويس التاسع يريد أن يستغل فرصة الاجتياح التتري لشرق العالم الإسلامي، فيقوم هو باجتياح العالم الإسلامي من ناحية مصر والشام، وذكرنا من قبل أنه - أي: لويس - حاول الاستعانة بخاقان التتار آنذاك وهو كيوك بن أوكيتاي، ولكن فشلت هذه المحاولة.. ومع ذلك فقد أصر لويس على المضي في حملته..


ووقع اختياره على مدينة دمياط المصرية ليبدأ بها حملته لأنها كانت أهم ميناء في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط في ذلك الزمن، وبذلك بدأت الحملة التي تعرف في التاريخ بالحملة الصليبية السابعة.


لن ندخل في تفصيلات هذه الحملة، وإن كان بها تفصيلات في غاية الأهمية، ومواقع من أهم المواقع في تاريخ المسلمين، ولكن ليس المجال هنا لذكرها، وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل في مقالات الحروب الصليبية وفي كتاب الحروب الصليبية..


نزل الملك لويس التاسع بجيشه إلى دمياط في يوم 20 صفر سنة 647هـ، وللأسف الشديد ظنت الحامية المدافعة عن المدينة أن سلطانهم المريض الملك الصالح أيوب قد مات، فانسحبوا انسحاباً غير مبرر، ووقعت دمياط في أيدي الصليبيين بسهولة، وهي المدينة التي دوخت قبل ذلك الحملة الصليبية الخامسة..


علم بذلك الملك الصالح رحمه الله فاشتد حزنه، وعاقب المسئولين عن جريمة سقوط دمياط، وتوقَّع أن النصارى الصليبيين سيتجهون إلى القاهرة عبر النيل لغزو العاصمة المصرية نفسها, وبذلك يُسقطون الدولة بكاملها.. لذلك فقد قرر بحكمته أن يرتب اللقاء في الطريق بين القاهرة ودمياط.. واختار لذلك مدينة المنصورة لأنها تقع على النيل، وحتمًا سيستغل الصليبيون النيل للإبحار فيه بسفنهم الكثيرة..


وبالفعل أمر الملك الصالح رحمه الله بأن يحمله الناس إلى مدينة المنصورة الواقعة على فرع النيل الذي يأتي من دمياط، وذلك لانتظار جيش الصليبيين بها، والاستعداد لمعركة فاصلة هناك.. وبالفعل حُمل الملك الصالح -رغم مرضه الشديد- إلى المنصورة، وبدأ فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس يضعان الخطة المناسبة للقاء النصارى في المنصورة..


* وفاة الملك الصالح :-
=============
خرج النصارى من دمياط في 12 شعبان 647هـ متجهين جنوباً عبر النيل صوب القاهرة، وكان من المؤكد أنهم سيمرون على المنصورة كما توقع الصالح أيوب.. ولكن سبحان الله في ليلة النصف من شعبان سنة 647 هـ توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله ، وهو في المنصورة يعد الخطة مع جيوشه لتحصين المدينة، فنسأل له الله المغفرة والرحمة وأجر الشهداء.. يقول ابن تغري بردي صاحب كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة والمتوفى سنة 874 هـ: "ولو لم يكن من محاسن السلطان الصالح نجم الدين أيوب إلا تجلده عند مقابلة العدو بالمنصورة، وهو بتلك الأمراض المزمنة، وموته على الجهاد والذبّ عن المسلمين لكفاه ذلك"، ثم يقول:" ما كان أصبره وأغزر مروءته!"..
وكانت مصيبة خطيرة جداً على المسلمين، لا لفقد الزعيم الصالح فقط، ولكن لفقدان البديل والخليفة له، وخاصة في ذلك التوقيت، والبلاد في أزمة شديدة، وميناء دمياط محتل، وجنود الصليبيين في الطريق..
وهنا تصرفت زوجة السلطان نجم الدين أيوب بحكمة بالغة.. وكانت زوجته هي "شجر الدر".


* شجر الدر تكتم خبر الوفاة :-
=================
وشجر الدرّ كانت فيما سبق جارية من أصل أرمني أو تركي، اشتراها الصالح أيوب ثم أعتقها وتزوجها، ولذلك فهي في الأصل أقرب إلى المماليك..
ماذا فعلت شجرة الدرّ بعد وفاة السلطان الصالح أيوب؟
لقد كتمت شجرة الدرّ خبر وفاته، وقالت أن الأطباء منعوا زيارته، وأرسلت بسرعة إلى ابن الصالح أيوب، والذي كان يحكم مدينة تعرف "بحصن كيفا "(في تركيا الآن)، وكان اسمه "توران شاه بن نجم الدين أيوب"، وأبلغته بخبر وفاة أبيه، وأن عليه أن يأتي بسرعة لاستلام مقاليد الحكم في مصر والشام، ثم اتفقت مع كبير وزراء الملك الصالح وكان اسمه "فخر الدين يوسف" على إدارة الأمور إلى أن يأتي توران شاه، ثم كلفت فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس بالاستمرار في الإعداد للمعركة الفاصلة في المنصورة، وهكذا سارت الأمور بصورة طيبة بعد وفاة الملك الصالح، ولم يحدث الاضطراب المتوقع نتيجة هذه الوفاة المفاجئة، وفي هذه الظروف الصعبة..
ومع كل احتياطات شجرة الدرّ إلا أن خبر وفاة الملك الصالح أيوب تسرب إلى الشعب، بل ووصل إلى الصليبيين، وهذا أدى إلى ارتفاع حماسة الصليبيين، وانخفاض معنويات الجيش المصري، وإن ظل ثابتاً في منطقة المنصورة..
ووضع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس خطة بارعة لمقابلة الجيش الفرنسي في المنصورة، وعرضاها على شجرة الدر، وكانت شجرة الدرّ تمثل الحاكم الفعلي لحين قدوم توران شاه ابن الصالح أيوب.. وأقرت شجرة الدرّ الخطة، وأخذ الجيش المصري مواقعه، واستعد للقاء..


* موقعة المنصورة :-
=============
في اليوم الرابع من ذي القعدة من سنة 647 هـ دارت موقعة المنصورة العظيمة، وانتصر فيها المسلمون انتصاراً باهراً، والموقعة فيها تفصيلات رائعة لكن ليس المجال لتفصيلها هنا..
ثم حدث هجوم آخر على جيش الملك لويس التاسع المعسكر خارج المنصورة، وذلك في اليوم السابع من ذي القعدة سنة 647 هـ، ولكن الملك لويس التاسع تمكن من صد ذلك الهجوم بعد كفاح مرير..
وصل توران شاه إلى المنصورة بعد هذا الهجوم الأخير بعشرة أيام في السابع عشر من ذي القعدة سنة 647 هجرية، وتسلم السلطان الشاب مقاليد الحكم، وأعلن رسمياً وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وولاية توران شاه حكم مصر والشام.. ثم بدأ توران شاه في التخطيط لهجوم جديد على الصليبيين.. وكانت حالة الجيش الصليبي قد ساءت، وبدأ بالانسحاب ناحية دمياط، بينما ارتفعت معنويات الجيش المصري جداً للانتصارات السابقة، وخاصة انتصار المنصورة، ولوصول توران شاه في الوقت المناسب..
وبعد خطة بارعة وضعها توران شاه بن الصالح أيوب استطاع الجيش المصري أن يلتقي مرة أخرى مع الصليبيين، عند مدينة "فارسكور" في أوائل المحرم سنة 648هـ، بعد أقل من شهرين من موقعة المنصورة الكبيرة! ودارت هناك معركة هائلة تحطم فيها الجيش الصليبي تماماً، بل وأسر الملك لويس التاسع نفسه، ووقع جيشه بكامله ما بين قتيل وأسير، وسيق الملك لويس مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة، حيث حبس في دار "فخر الدين إبراهيم ابن لقمان"..
ووضعت شروط قاسية على الملك لويس التاسع ليفتدي نفسه من الأسر، وكان من ضمنها أن يفتدي نفسه بثمانمائة ألف دينار من الذهب يدفع نصفها حالاً ونصفها مستقبلاً، على أن يحتفظ توران شاه بالأسرى الصليبيين إلى أن يتم دفع بقية الفدية، بالإضافة إلى إطلاق سراح الأسرى المسلمين، وتسليم دمياط للمسلمين، وهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات..
لقد كان انتصاراً باهراً بكل المقاييس..
وتم بالفعل جمع نصف الفدية بصعوبة، وأطلق سراح الملك لويس التاسع إلى عكا، وكانت إمارة صليبية في ذلك الوقت.. نسأل الله أن يحررها من دنس اليهود الآن..


* مقتل توران شاه :-
============
مع هذا الانتصار المبهر إلا أن توران شاه لم يكن الرجل الذي يناسب تلك الأحداث الساخنة التي تمر بالأمة..
لقد كان توران شاه شخصية عابثة!.. فلقد اتصف هذا السلطان الشاب بسوء الخلق، والجهل بشئون السياسة والحكم، وأعماه الغرور الذي ركبه بعد النصر على لويس التاسع ملك فرنسا عن رؤية أفضال ومزايا من حوله، فقد بدأ من ناحية يتنكر لزوجة أبيه شجر الدر، واتهمها بإخفاء أموال أبيه، وطالبها بهذا المال، بل وهددها بشدة حتى دخلها منه خوف شديد، ولم يحفظ لها جميل حفظ الملك له بعد موت أبيه، وحفاظها على سير الأمور لحين قدومه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه بدأ يتنكر لكبار أمراء المماليك، وعلى رأسهم فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، ولم يحفظ للمماليك جميل الانتصار الرائع الذي حققوه في موقعة المنصورة، فبدأ يقلل من شأنهم، ويقلص من مسئولياتهم، وبدأ على الجانب الآخر يعظم من شأن الرجال الذين جاءوا معه من حصن كيفا، وبدا واضحاً للجميع أنه سيقوم بعمليات تغيير واسعة النطاق في السلطة في مصر..
كل هذا في غضون الأشهر الثلاثة الأولى في مصر!.. وبعد موقعة فارسكور مباشرة..
وخافت شجر الدرّ على نفسها، وأسرت بذلك إلى المماليك البحرية، وخاصةً فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، وكان المماليك البحرية يكنون لها كل الاحترام والولاء لكونها زوجة أستاذهم الملك الصالح رحمه الله ، وكانت علاقة الأستاذية هذه من القوة بحيث تبقى آثارها حتى بعد موت الأستاذ.. ثم إن شجرة الدرّ قد وجدت نفس الوساوس في نفوس المماليك البحرية في ذات الوقت، ومن ثم اجتمع الرأي على سرعة التخلص من "توران شاه" قبل أن يتخلص هو منهم.. فقرروا قتله!!..
والحق أن المماليك بصفة عامة كان عندهم تساهل كبير في الدماء.. فكانوا يقتلون "بالشك!!".. فإذا شكوا في نوايا أحد أنه "ينوي" أن يغدر فإن ذلك يعتبر عندهم مبرراً كافياً للقتل، ولا أدري كيف كان هذا التساهل عاماً في حياة المماليك، فقد ظل هذا التساهل في الدماء في كل فترات دولة المماليك، وكم من أمرائهم، وكم من خصومهم، بل كم من عظمائهم قُتل بسبب الشك في نواياه، وقد يكون هذا راجعاً إلى التربية العسكرية الجافة التي نشأ عليها المماليك، فكانت فيهم قسوة نسبية وشدة، وعدم تمييع للأمور، فهم يحبون حسم كل أمورهم بالسيف الذي يحملونه منذ نعومة أظفارهم.. غير أن الذي لا يُفهم هو أن هؤلاء المماليك كانوا أيضاً ينشئون على التربية الدينية والفقهية.. ولا أدري أي سند فقهي يعضد قتل رجل ما، حتى ولو غلب على الظن أنه سيقوم بعزلك أو "احتمال" قتلك!
المهم أنه في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والتدبيرات الخفية لم يكن يُستهجن جداً أمر هذا القتل، حتى لتجد أن القاتل قد يفخر أمام الناس بقتله لخصمه، بل قد يصعد وهو مرفوع الرأس إلى كرسي الحكم، ولا يشعر بأي تأنيب للضمير، وكأن الدماء التي تسيل ليس لها وزن عند الله ، ولا عند الناس..
وليس هذا دفاعاً عن "توران شاه" أو عن أي قتيل غيره، فقد يكون القتيل شخصية عابثة سيئة كريهة، ولكن العقوبات في الإسلام تأتي بمقاييس معينة وبمقادير خاصة.. وهذه المقاييس لم نحددها نحن، بل حددها رب السموات والأرض.. فالسارق -وإن كان مجرماً سيئاً كريهاً- إلا أنه لا يُقتل لمجرد السرقة بل تقطع يده، والزاني غير المحصن -وإن كان قد أتى بفعلة مشينة، وقام بعمل شنيع- إلا أنه يُجلد ولا يُرجم وهكذا..


* مسألة القتل بالشك :-
=============
لا أعتقد أن الوساوس التي كانت تدخل نفوس بعض المماليك من غيرهم كانت مبرراً شرعياً كافياً للقتل.. نعم قد تكون مبرراً شرعياً للعزل أو الاعتراض أو الحبس.. لكن الوصول إلى حد القتل أمر كبير جداً..
لقد رفض عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتل عبدًا مجوسيًا غير مسلم مع عظم شكه في أن العبد سيقتله، فقد كان العبد المجوسي "أبو لؤلؤة" يعيش في المدينة، ويكره "عمر بن الخطاب" كراهية شديدة، وعمر رضي الله عنه هو " أمير المؤمنين" آنذاك، وكان عمر يعلم منه هذه الكراهية، لكنه لم يفكر في قتله أو حبسه أو ظلمه بأي صورة من صور الظلم، لأن الأمر مجرد شك لم يرتكز على يقين.
بل روى ابن سعد رحمه الله في الطبقات الكبرى بسند صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لهذا المجوسي ذات يوم: ألم أحدث أنك تقول: "لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالرحى" وكان المجوسي صانعًا ماهرًا، فالتفت إليه المجوسي عابسًا، وقال: "لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها"، وقد قال هذه الكلمات بلهجة جعلت عمر يُقبل على من معه، ويقول: توعدني العبد!!.. أي أن عمر رضي الله عنه شك شكًا كبيرًا أن هذا العبد يتوعده بالقتل، وعمر ليس ككل المسلمين.. إن شكه يقترب من يقين الآخـرين، فهو الملهم الذي كان القرآن ينزل موافقًا لرأيه في كثير من المسـائل..
ومع ذلك فعمر لم يعتمد شكه أبدًا في قتل ـ أو حتى حبس ـ العبد المجوسي، الذي ليس بمسلمٍ أصلاً، لكن تحريم الظلم، وإرساء العدل أصل من الأصول لا فرق فيه بين المسلم وغير المسلم..
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8].
وسبحان الله !!.. صدق ظن عمر ، ومرت الأيام، وقَتل العبد المجوسي عمر بن الخطاب، ولكن ذلك لم يغيّر من القاعدة الإسلامية شيئًا.. فلا يقتل أو يحبس، أو تقام عقوبة ما، ولو صغرت على رجل أو امرأة، أو حر أو عبد، أو غني أو فقير، إلا بدليل.. ودليل قوي ظاهر متفق على وضوحه..
{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36].
بل حدث مع علي بن أبي طالب ما هو أعجب من موقف عمر بن الخطاب ، فعمر كان يشك في أبي لؤلؤة المجوسي، وكان هذا قبل أي محاولة للقتل.. أمـا علي بن أبي طالب فلم يأمر بقتل الذي طعنه فعلاً ـ وهو"عبد الرحمن بن ملجم ـ إلا حينما يتيقن المسلمون أن عليًا قد مات، وهنا يقتل القاتل بسبب قتله لعلي ، أما إذا لم يمت علي فلا يقتل!....
قال علي بعد أن طعنه عبد الرحمن بن ملجم: "النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي".
ثم أوصى أولاده، وأقاربه قبل أن يموت فقال: "يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين، تقولون: "قُتل أمير المؤمنين، قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتلن إلا قاتلي، انظر يا حسن إن أنا مت فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله يقول: "إياكم والمثلة، ولو أنها بالكلب العقور".
هذا هو الإسلام، ومع كون بعض البشر تقبل نفوسهم أن يعذبوا غيرهم من الناس بجريمة أو بدون جريمة.. فإن الإسلام يحرم المثلة بالكلب العقور!!


* نهاية الدولة الأيوبية :-
==============
اتفقت شجرة الدرّ مع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وغيرهما من المماليك الصالحية البحرية على قتل "توران شاه"، وبالفعل تمت الجريمة في يوم 27 محرم سنة 648هـ ي بعد سبعين يوماً فقط من قدومه من حصن كيفا واعتلائه عرش مصر!.. وكأنه لم يقطع كل هذه المسافات لكي يحكم بل لكي يُدفن!!


وهكذا بمقتل "توران شاه" انتهى حكم الأيوبيين تماماً في مصر.. وبذلك أغلقت صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي..
* المماليك والحكم في مصر *
===================
حدث فراغ سياسي كبير جداً بقتل توران شاه، فليس هناك أيوبي في مصر مؤهل لقيادة الدولة، ومن ناحية أخرى فإن الأيوبيين في الشام مازالوا يطمعون في مصر، وحتماً سيجهزون أنفسهم للقدوم إليها لضمها إلى الشام، ولا شك أنه قد داخل الأيوبيين في الشام حنق كبير على المماليك لأنهم تجرءوا وقتلوا أيوبياً.. ولا شك أيضاً أن المماليك كانوا يدركون أن الأيوبيين سيحرصون على الثأر منهم، كما أنهم كانوا يدركون أن قيمتهم في الجيش المصري كبيرة جداً، وأن القوة الفعلية في مصر ليست لأيوبي أو غيره إنما هي لهم، وأنهم قد ظُلموا بعد موقعة المنصورة وفارسكور، لأنهم كانوا السبب في الانتصار ومع ذلك هُمّش دورهم..
كل هذا الخلفيات جعلت المماليك -ولأول مرة في تاريخ مصر- يفكرون في أن يمسكوا هم بمقاليد الأمور مباشرة!.. وما دام الحكم لمن غلب، وهم القادرون على أن يغلبوا، فلماذا لا يكون الحكم لهم؟!..
لقد استُخدم المماليك في مصر من أيام الدولة الطولونية، والذين حكموا من سنة 254هـ إلى سنة 292هـ، يعني قبل هذه الأحداث بحوالي أربعة قرون كاملة، وكذلك استُخدموا في أيام الدولة الأخشيدية من سنة 323هـ إلى سنة 358هـ، و استُخدموا أيضاً في أيام الفاطميين الشيعة الذين حكموا من سنة 358هـ إلى زمان صلاح الدين الأيوبي، حيث انتهت خلافتهم في سنة 567هـ (أي ما يزيد على قرنين كاملين).. واستُخدِموا أيضًا وبكثرة في عهد الأيوبيين كما رأينا..
وفي كل هذه الفترات كان الجيش يعتمد تقريباً على المماليك، ومع ذلك لم يفكروا مطلقاً في حكم ولا سيادة، بل كانوا دائماً أعوان الملوك، وما كانت تخطر على أذهانهم فكرة الملك أبداً لكونهم من المماليك الذين يباعون ويشترون، ولم تكن لهم عائلات معروفة ينتمون إليها، ولا شك أن هذا كان يشعرهم بالغربة في البلاد الجديدة التي يعيشون فيها، كما أن الخطر لم يكن يمسهم شخصياً؛ فهم تبع للسلطة الجديدة، ولا يُستهدفون لذواتهم، أما الآن فالمؤامرات تدبر لهم، والدائرة ستدور عليهم، والملوك ضعفاء، والقوة كلها بأيدي المماليك.. فلماذا لا يجربون حظهم في الحكم؟!
لكن صعود المماليك مباشرة إلى الحكم سيكون مستهجناً جداً في مصر، فالناس لا تنسى أن المماليك -في الأساس- عبيد، يباعون ويشترون، وشرط الحرية من الشروط الأساسية للحاكم المسلم.. وحتى لو أُعتقوا فإن تقبُّل الناس لهم (كحُكَّام) سيكون صعبًا.. وحتى لو كثرت في أيديهم الأموال، وتعددت الكفاءات، وحكموا الأقاليم والإقطاعات، فهم في النهاية مماليك.. وصعودهم إلى الحكم يحتاج إلى حجة مقنعة للشعب الذي لم يألفهم في كراسي السلاطين..
كل هذا دفع المماليك البحرية الصالحية إلى أن يرغبوا بعد مقتل توران شاه في "فترة انتقالية" تمهد الطريق لحكم المماليك الأقوياء، وفي ذات الوقت لا تقلب عليهم الدنيا في مصر أو في العالم الإسلامي..
كانت هذه هي حسابات المماليك الصالحية البحرية..
فماذا كانت حسابات شجرة الدر؟!..
* شجر الدر والتطلع إلى الحكم :-
===================
شجر الدرّ امرأة ذات طابع خاص جداً.. لا تتكرر كثيراً في التاريخ.. فهي امرأة قوية جداً.. شجاعة.. جريئة.. لها عقل مدبر، وتتمتع بحكمة شديدة.. كما أن لها القدرة على القيادة والإدارة.. وكانت شجر الدرّ ترى في نفسها كل هذه القدرات.. وكانت شديدة الإعجاب بإمكانيتها وبنفسها (وكان هذا من أكبر مشاكلها).. مما دفعها إلى تفكير جديد تماماً على الفكر الإسلامي، وخاصة في هذه الفترة من تاريخ الأمة..
لقد فكرت شجر الدر في الصعود إلى كرسي الحكم في مصر!!.. وهذا أمر هائل فعلاً، وهذه سباحة عنيفة جداً ضد التيار.. لكنها وجدت في نفسها الملكات التي تسمح بتطبيق هذه الفكرة الجريئة!.. فقالت لنفسها: لقد حكمت البلاد سرًا أيام معركة المنصورة، فلماذا لا أحكمها جهرًا الآن؟
في ذات الوقت وجد المماليك البحرية في شجرة الدرّ الفترة الانتقالية التي يريدون.. إنها زوجة "الأستاذ".. زوجة الصالح نجم الدين أيوب الذي يكنّون له ويكنُّ له الشعب كله كامل الوفاء والاحترام والحب، وهي في نفس الوقت تعتبر من المماليك لأن أصلها جارية وأعتقت، كما أنها في النهاية امرأة، ويستطيع المماليك من خلالها أن يحكموا مصر، وأن يوفروا الأمان لأرواحهم..


* شجر الدر سلطانة مصر:-
================
لكل ما سبق توافقت رغبات المماليك مع رغبة شجر الدر.. وقرروا جميعاً إعلان شجر الدرّ حاكمة لمصر بعد مقتل توران شاه بأيام، وذلك في أوائل صفر سنة 648هـ!.


* وقامت الدنيا ولم تقعد!!
تفجرت ثورات الغضب في كل مكان.. وعمّ الرفض لهذه الفكرة في أطراف العالم الإسلامي.. وحاولت شجرة الدرّ أن تُجمل الصورة قدر استطاعتها، فنسبت نفسها إلى زوجها المحبوب عند الشعب الملك الصالح نجم الدين أيوب، فقالت عن نفسها إنها ملكة المسلمين الصالحية.. ثم وجدت أن ذلك غير كافٍ فنسبت نفسها إلى ابنها الصغير ابن الصالح أيوب، والمعروف باسم "الخليل"، فلقبت نفسها "ملكة المسلمين الصالحية والدة السلطان خليل أمير المؤمنين"، ثم وجدت ذلك أيضاً غير كاف فأضافت نفسها إلى الخليفة العباسي الذي كان يحكم بغداد في ذلك الوقت وهو المستعصم بالله ، والذي سقطت في عهده بغداد في يد التتار كما فصلنا قبل ذلك، فقالت شجرة الدرّ عن نفسها: "ملكة المسلمين المستعصمية (نسبة إلى المستعصم) الصالحية (نسبة إلى الصالح أيوب) والدة السلطان خليل أمير المؤمنين"!!..
ومع كل هذه المحاولات للتزلف إلى العامة وإلى العلماء ليقبلوا الفكرة إلا أن الغضب لم يتوقف، وظهر على كافة المستويات.. وخاصةً أن البلاد في أزمة خطيرة، والوضع حرج للغاية؛ فالحملات الصليبية الشرسة لا تتوقف، والإمارات الصليبية منتشرة في فلسطين، وهي قريبة جداً من مصر، وأمراء الشام الأيوبيون يطمعون في مصر، والصراع كان محتدماً بينهم وبين السلطان الراحل نجم الدين أيوب، كما أن التتار يجتاحون الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها، وأنهار دماء المسلمين لا تتوقف، والتتار الآن يطرقون باب الخلافة العباسية بعنف.. ومصر في هذا الوقت الحرج على فوهة بركان خطير.. ولا يدري أحد متى ينفجر البركان!!..
وقامت المظاهرات العارمة على المستوى الشعبي في القاهرة في كل أنحائها، وشرع المتظاهرون في الخروج بمظاهراتهم إلى خارج حدود المدينة، مما اضطر السلطات الحكومية إلى غلق أبواب القاهرة لمنع انتشار المظاهرات إلى المناطق الريفية..
وقام العلماء والخطباء ينددون بذلك على منابرهم، وفي دروسهم، وفي المحافل العامة والخاصة، وكان من أشد العلماء غضباً وإنكاراً الشيخ الجليل العز بن عبد السلام رحمه الله أبرز العلماء في ذلك الوقت..
كما أظهر الأمراء الأيوبيون في الشام حنقهم الشديد، واعتراضهم المغلظ على صعود النساء إلى كرسي الحكم في مصر..
وجاء رد الخليفة العباسي المستعصم بالله قاسياً جداً، وشديداً جداً، بل وساخراً جداً من الشعب المصري كله، فقد قال في رسالته: "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم أعلمونا، حتى نسير إليكم رجلاً!"..
وهكذا لم تتوقف الاعتراضات على الملكة الجديدة.. ولم تنعم بيوم واحد فيه راحة، وخافت الملكة الطموحة على نفسها، وخاصة في هذه الأيام التي يكون فيها التغيير عادة بالسيف والذبح لا بالخلع والإبعاد.. ومن هنا قررت الملكة شجرة الدرّ بسرعة أن تتنازل عن الحكم.... لرجل!!.. أي رجل!!..
* لكن لمن تتنازل؟!
إنها مازالت ترغب في الحكم، وتتشوق إليه، وما زالت تعتقد في إمكانياتها العقلية والإدارية والقيادية.. وهي إمكانيات هائلة فعلاً.. فماذا تفعل؟!
* تنازل شجرة الدر عن الحكم :-
=====================
قررت الملكة السلطانة شجرة الدرّ أن تمسك العصا -كما يقولون -من منتصفها، فتحكم باطناً وتتنحى ظاهراً، ففكرت في لعبة سياسية خطيرة وهي أن تتزوج من أحد الرجال.. ثم تتنازل له عن الحكم ليكون هو في الصورة.. ثم تحكم هي البلاد بعد ذلك من خلاله.. أو من خلف الستار كما يحدث كثيراً في أوساط السياسة، فكم من الحكام ليس لهم من الحكم إلا الاسم، وكم من السلاطين ليس لهم من السلطة نصيب، وما أكثر الرجال الذين سيقبلون بهذا الوضع في نظير أن يبقى أطول فترة ممكنة في الكرسي الوثير: كرسي الحكم!!!..
فمن يكون ذاك الرجل؟ وكيف انتهى المطاف بالملكة السلطانة؟




* شجرة الدر وقرار الزواج :-
==================
اتخذت شجرة الدرّ قرار الزواج، على أنها لا تبغي الزواج لذات الزواج، ولا تريد رجلاً حقيقة، إنما تريد فقط "صورة رجل".. لأن هذا الرجل لو كان قوياً لحكم هو، ولأمسك بمقاليد الأمور في البلاد وحده.. ولذلك أيضاً يجب أن لا يكون هذا الرجل من عائلة قوية أصيلة، وذلك حتى لا تؤثر عليه عائلته، فيخرج الحكم من يد الملكة شجرة الدر.. وحبذا لو كان هذا المختار سعيد الحظ من المماليك، وذلك حتى تضمن ولاء المماليك، وهذا أمر في غاية الأهمية، فلو كان هذا الرجل هو السند الشرعي للحكم، فالمماليك هم السند الفعلي والعسكري والواقعي للحكم.. * عز الدين أيبك :-
===========
وضعت شجرة الدرّ كل هذه الأمور في ذهنها، ومن ثم اختارت رجلاً من المماليك اشتهر بينهم بالعزوف عن الصراع، والبعد عن الخلافات، والهدوء النسبي، وكلها صفات حميدة في نظر شجرة الدر، فوجدت في هذا الرجل ضالتها.. وكان هذا الرجل هو "عزّ الدين أيبك التركماني الصالحي".. وهو من المماليك الصالحية البحرية.. أي من مماليك زوجها الراحل الملك الصالح نجم الدين أيوب.. ولم تختر شجرة الدرّ رجلاً من المماليك الأقوياء أمثال فارس الدين أقطاي أو ركن الدين بيبرس، وذلك لتتمكن من الحكم بلا منازع..
وبالفعل تزوجت شجر الدرّ من عز الدين أيبك، ثم تنازلت له عن الحكم كما رسمت، وذلك بعد أن حكمت البلاد ثمانين يوماً فقط، وتم هذا التنازل في أواخر جمادى الثاني من نفس السنة.. سنة 648هـ.. وهكذا في غضون سنة واحدة فقط جلس على كرسي الحكم في مصر أربعة ملوك.. وهم الملك الصالح أيوب رحمه الله ثم مات، فتولى توران شاه ابنه ثم قتل، فتولت شجرة الدرّ ثم تنازلت، فتولى عزّ الدين أيبك التركماني الصالحي!..
وتلقب عزّ الدين أيبك "بالملك المعز"، وأخذت له البيعة في مصر..
وكأن الله سبحانه -بهذه الأحداث– أراد أن يمهّد عقول المصريين لقبول فكرة صعود المماليك إلى كرسي الحكم..
وقبل الشعب في مصر بالوضع الجديد.. فهو -وإن لم يكن مثالياً في رأيهم- إلا أنه أفضل حالاً من تولي امرأة، كما أن البديل من الأيوبيين في مصر غير موجود، والبديل من الأيوبيين في الشام غير موجود أيضاً؛ فأمراء الأيوبيين في الشام كانوا في غاية الضعف والسوء والعمالة والخيانة.. وقد مرّ بنا قبل ذلك تخاذلهم وتعاونهم مع التتار، وكذلك تخاذلهم وتعاونهم مع الصليبيين..
واستقر الوضع نسبياً في مصر بزعامة عزّ الدين أيبك، والذي يعتبر أول حاكم مملوكي في مصر، وإن كان بعض المؤرخين يعتبر أن شجر الدرّ هي أولى المماليك في حكم مصر لأنها أصلاً مملوكة أو جارية.
وبدأت شجرة الدرّ تحكم من وراء الستار -كما أرادت-، وهي مؤيدة بالمماليك القوية، وخاصة -كما ذكرنا- فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس..
ولكن يبدو أن ذكاء شجرة الدرّ قد خانها عند اختيار ذلك الرجل؛ فالملك المعز عزّ الدين أيبك لم يكن بالضعف الذي تخيلته شجرة الدرّ ولا المماليك البحرية، فقد أدرك الملك الجديد من أول لحظة مرامي الملكة المتنازلة عن العرش، وعرف خطورة إخوانه من المماليك البحرية في مصر وقوتهم، فبدأ يرتب أوراقه من جديد، ولكن في حذر شديد..






* المماليك المعزية:-
============
كان الملك المعز عزّ الدين أيبك من الذكاء بحيث إنه لم يصطدم بشجرة الدرّ ولا بزعماء المماليك البحرية في أول أمره.. بل بدأ يقوي من شأنه، ويعد عدته تدريجياً، فبدأ يشتري المماليك الخاصة به، ويعد قوة مملوكية عسكرية تدين له هو شخصياً بالولاء، وانتقى من مماليك مصر من يصلح لهذه المهمة، وكوّن ما يعرف في التاريخ "بالمماليك المعزية" نسبة إليه (المعز عز الدين أيبك)، ووضع على رأس هذه المجموعة أبرز رجاله، وأقوى فرسانه، وأعظم أمرائه مطلقاً وهو "سيف الدين قطز" رحمه الله ..
وكان هذا هو أول ظهور تاريخي للبطل الإسلامي الشهير: سيف الدين قطز، فكان يشغل مركز قائد مجموعة المماليك الخاصة بالملك المعز عز الدين أيبك.. وسيأتي إن شاء الله حديث قريب عن قطز رحمه الله وعن أصله..
ومع أن الملك المعز عزّ الدين أيبك نفسه من المماليك البحرية إلا أنه بدأ يحدث بينه وبينهم نفور شديد.. أما هو فيعلم مدى قوتهم وارتباطهم بكلمة زوجته شجرة الدرّ التي لا تريد أن تعامله كملك بل "كصورة ملك".. وأما هم فلا شك أن عوامل شتى من الغيرة والحسد كانت تغلي في قلوبهم على هذا المملوك صاحب الكفاءات المحدودة في نظرهم الذي يجلس الآن على عرش مصر، ويُلقب بالملك.. أما هم فيلقبون بالمماليك.. وشتان!!..
لكن الملك الذكي المعز عزّ الدين أيبك لم يُستفز مبكراً.. بل ظل هادئاً يعد عدته في رزانة، ويكثر من مماليكه في صمت..
* المواجهة بين المعز والأيوبيين :-
====================
مرت الأيام، وحدث أن تجمعت قوى الأمراء الأيوبيين الشاميين لغزو مصر، وذلك لاسترداد حكم الأيوبيين بها.. وكانت الشام قد خرجت من حكم ملك مصر بعد وفاة توران شاه مباشرة.. والتقى معهم الملك المعز عزّ الدين أيبك بنفسه في موقعة فاصلة عند منطقة تسمى "العباسة" وهي تقع على بعد حوالي عشرين كيلومترًا شرقي الزقازيق الآن، وذلك في العاشر من ذي القعدة سنة 648هـ، أي بعد أربعة شهور فقط من حكمه، وانتصر الملك المعز عزّ الدين أيبك على خصومه انتصاراً كبيراً، ولا شك أن هذا الانتصار رفع أسهمه عند الشعب المصري، وثبت من أقدامه على العرش..
وفي سنة 651هـ أي بعد 3 سنوات من حكم أيبك حدث خلاف جديد بين أمراء الشام والملك المعز عز الدين أيبك، ولكن قبل أن تحدث الحرب تدخل الخليفة العباسي المستعصم بالله -وهذه نقطة تحسب له- للإصلاح بين الطرفين، وكان من جراء هذا الصلح أن دخلت فلسطين بكاملها حتى الجليل شمالاً تحت حكم مصر، فكانت هذه إضافة لقوة الملك المعز عز الدين أيبك، ثم حدث تطور خطير لصالحه وهو اعتراف الخليفة العباسي بزعامة الملك المعز عزّ الدين أيبك على مصر، والخليفة العباسي ـ وإن كان ضعيفاً، وليست له سلطة فعلية ـ إلا أن اعترافه يعطي للملك المعز صبغة شرعية هامة..
* مقتل فارس الدين أقطاي :-
=================
كل هذه الأحداث مكنت الملك المعز عزّ الدين أيبك من التحكم في مقاليد الأمور في مصر، ومن ثم زاد نفور زعماء المماليك البحرية منه، وبخاصةٍ فارس الدين أقطاي الذي كان يبادله كراهية معلنة، لا يخفيها بل يتعمد إبرازها.. فكما يقول المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك": "لقد بالغ فارس الدين أقطاي في احتقار أيبك والاستهانة به، بحيث كان يناديه باسمه مجرداً من أي ألقاب"، وهذا يعكس اعتقاد فارس الدين أقطاي أن هذا الملك صورة لا قيمة لها، وتخيل قائد الجيش ينادي الملك هكذا: يا أيبك.. ولا يناديه هكذا صداقة بل احتقاراً.. هذه المعاملة من أقطاي، وإحساس أيبك من داخله أن المماليك البحرية -وقد يكون الشعب- ينظرون إليه على أنه مجرد "زوج" للملكة المتحكمة في الدولة.. هذا جعله يفكر جدياً في التخلص من أقطاي ليضمن الأمان لنفسه، وليثبت قوته للجميع.. وهكذا لا يحب الملوك عادة أن يبرز إلى جوارهم زعيم يعتقد الشعب في قوته أو حكمته..
انتظر أيبك الفرصة المناسبة، إلى أن علم أن أقطاي يتجهز للزواج من إحدى الأميرات الأيوبيات، فأدرك أن أقطاي يحاول أن يضفي على نفسه صورة جميلة أمام الشعب، وأن يجعل له انتماءً واضحاً للأسرة الأيوبية التي حكمت مصر قرابة ثمانين سنة، وإذا كانت شجرة الدرّ حكمت مصر لكونها زوجة الصالح أيوب، فلماذا لا يحكم أقطاي مصر لكونه زوجاً لأميرة أيوبية، فضلاً عن قوته وبأسه وتاريخه وقيادته للجيش في موقعة المنصورة الفاصلة؟!..
هنا شعر الملك المعز عزّ الدين أيبك بالخطر الشديد، وأن هذه بوادر انقلاب عليه، والانقلاب عادة يكون بالسيف، فاعتبر أن ما فعله أقطاي سابقاً من إهانة واحتقار، وما يفعله الآن من زواج بالأميرة الأيوبية ما هو إلا مؤامرة لتنحية أيبك عن الحكم، ومن ثم أصدر أيبك أوامره "بقتل" زعيم المماليك البحرية فارس الدين أقطاي.. لأنه "ينوي" الانقلاب!!!..
وبالفعل تم قتل فارس الدين أقطاي بأوامر الملك المعز، وبتنفيذ المماليك المعزية، وتم ذلك في 3 شعبان سنة 652هـ..
وبقتل فارس الدين أقطاي خلت الساحة لعز الدين أيبك، وبدأ يظهر قوته، ويبرز كلمته، وبدأ دور الزوجة شجرة الدرّ يقل ويضمحل؛ فقد اكتسب الملك المعز الخبرة اللازمة، وزادت قوة مماليكه المعزية، واستقرت الأوضاع في بلده، فرضي عنه شعبه، واعترف له الخليفة العباسي بالسيادة، ورضي منه أمراء الشام الأيوبيون بالصلح..
* هروب المماليك البحرية :-
================
بقتل فارس الدين أقطاي انقسم المماليك إلى حزبين كبيرين متنافرين: المماليك البحرية الذين يدينون بالولاء لشجرة الدر، والمماليك المعزية الذين يدينون بالولاء للملك المعز عزّ الدين أيبك..
وحيث إن فارس الدين أقطاي نفسه -وهو أكبر المماليك البحرية قدراً، وأعظمهم هيبة- قد قُتل، فاحتمال قتل بقية زعماء المماليك البحرية أصبح قريباً.. وبات المماليك البحرية في توجس وريبة..


وما استطاعت زعيمتهم شجرة الدرّ أن تفعل لهم شيئاً، وهنا قرر زعماء المماليك البحرية الهروب إلى الشام خوفاً من الملك المعز عز الدين أيبك، وكان على رأس الهاربين ركن الدين بيبرس، الذي ذهب إلى الناصر يوسف، هذا الخائن الذي كان يحكم حلب ثم دمشق، ودخل ركن الدين بيبرس في طاعته..


وهكذا صفا الجو في مصر تماماً للملك المعز عز الدين أيبك، وإن كان العداء بينه وبين المماليك البحرية قد خرج من مرحلة الشكوك والتوقعات وأصبح معلناً وصريحاً، و من جديد توسط الخليفة العباسي المستعصم بالله ليضمن استقرار الأوضاع في مصر والشام، لأن انضمام المماليك البحرية إلى الأمراء الأيوبيين بالشام قد يشعل نار الفتنة من جديد بين مصر والشام، ونجحت وساطة الخليفة العباسي، واتفقوا على أن يعيش المماليك البحرية في فلسطين التي كانت تابعة للملك المعز، ويبقى الملك المعز في مصر، إلا أن ركن الدين بيبرس -زعيم المماليك البحرية الآن بعد قتل فارس الدين أقطاي- آثر أن يبقى في دمشق عند الناصر يوسف الأيوبي..
* زواج المعز أيبك :-
=============
مرت السنوات، والملك المعز عزّ الدين أيبك مستقر في عرشه، وقد أصبح قائده سيف الدين قطز قائداً بارزاً معروفاً عند الخاصة والعامة، واختفي تقريباً دور الزوجة الملكة القديمة شجرة الدر، وهذا كله ولاشك جعل الحقد يغلي في قلب شجرة الدر، ولا شك أن عزّ الدين أيبك كان يبادلها الشعور بالكراهية، فهو يعلم أنها ما تزوجته إلا لتحكم مصر من خلاله، ولكن أحياناً تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!..


وجاءت سنة 655هـ وقد مرت7 سنوات كاملة على حكم الملك المعز عز الدين أيبك، وأراد الملك المعز أن يثبت أقدامه على العرش بصورة أكبر، بل وتزايدت أطماعه جداً في المناطق المجاورة له في فلسطين والشام، ولم تكن له طاقة على تنفيذ أحلامه بمفرده، فأراد أن يقيم حلفاً مع أحد الأمراء الكبار في المنطقة ليساعده في ذلك، ولما كانت الخيانة في العهود أمراً طبيعياً في تلك الآونة، فإنه أراد أن يوثق الحلف برباط غليظ وهو...... الزواج!!..


واختار الملك المعز عزّ الدين أيبك بنت حاكم الموصل الأمير الخائن بدر الدين لؤلؤ، والذي تحدثنا عنه كثيراً، وعن تعاونه المقزز مع التتار..


* مقتل عز الدين أيبك:-
=============
علمت شجرة الدرّ بهذا الأمر فاشتعلت الغيرة في قلبها.. وركبها الهم والغم، وعلمت أنه لو تم هذا الزواج الجديد فستطوى صفحتها تماماً من التاريخ، وأعْمَتها الكراهية عن حسن تقدير الأمور، وهي التي اشتهرت بالحكمة، فلم تقدّر أن زعماء المماليك البحرية قد اختفوا، وأن القوة الحقيقية الآن في أيدي المماليك المعزّية الذين يدينون بالولاء والطاعة للملك المعز عز الدين أيبك.. لم تقدّر كل ذلك، وقررت بعاطفة المرأة أن تقدم على خطوة غير مدروسة، ولكنها مألوفة لديها، فقد فعلتها قبل ذلك مع توران شاه ابن زوجها السابق، وهي ستفعلها الآن مع زوجها الحالي.. وهذه الخطوة هي: قتل الزوج الملك المعز: عزّ الدين أيبك.. فليُقتل وليكن ما يكون!.. هكذا فكرت شجرة الدر!!..


وبالفعل دبرت مؤامرة لئيمة لقتل زوجها الملك، وتم تنفيذ المؤامرة فعلاً في قصرها في شهر ربيع الأول سنة 655هـ، ولينتهي بذلك حكم المعز عزّ الدين أيبك بعد سبع سنوات من الجلوس على عرش مصر، وهكذا تكون شجرة الدرّ قد قتلت اثنين من سلاطين مصر: توران شاه ثم عز الدين أيبك..
أضف رد جديد الموضوع السابقالموضوع التالي
العودة إلى ”المنتدى الإسلامي العام“